إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

لماذا نكتب؟ (1-2)

 لماذا نكتب؟  (1-2)





بقلم: د. عزوز علي إسماعيل 


الكتابةُ هي تلك الطريقةُ التي نسجِّل من خلالها أنفسَنَا والآخرين عبر أحرف الأبجدية، ولولا الكتَابةُ ما كان النَّصُّ، ولا حواشي النَّـصِّ ولا عَتَبَاتِ النَّـصِّ، فالكتابةُ هي الإمساك بالزَّمنِ في لحظة فارقة ومرحلةٍ من مراحل الإبداع من أجل الخلود، فنكتبُ لنعيشَ أزماناً طويلةً وأعماراً فوق أعمارنا، حيث إن كتَّابَنَا الكبار، وشعراءَنا العظام، منذ العصر الجاهلي، وما تلا ذلك، ما زالوا يَحْيَوْنَ بيننا بسبب الكتابة والحفظ والتدوين بعد أنْ كان التُّراثُ شَفَاهةً، فإذا كان الخطُّ رسولَ الفكر،ِ فإنَّ القلمَ أو الرِّيشة الأداة التي نمسك بها للتَّعبير عن مخيلاتنا، ولولا القلمُ ما كتبَ المبدعُ ولولا الرِّيْشَةُ ما رسم ولا خطَّ الفنان خطوطَه، فالقلمُ هو ما يخط لنا بالمدادِ المعبِّر عن الفكْرِ، فهو لا يقل أهميةً عن أي عتبةٍ أخرى؛ لأنَّه الأسَاسُ، وإذا كانتْ الوسائلُ الحضَاريةُ من التكنولوجيا تغني عن الإمساك بالقلمِ، فإنَّ القلمَ سيظلُ هو الرمز للكتابة والتَّعبير عن الفكر باليد التي تكتب على الجهاز. إن الكتابة هي المحور الرئيس للإبداع، والكتابةُ هي الوصول إلى مرحلة تشبِّع بعد القراءة، بل كما قال كافكا، هي الولادةُ التي تأتي بعد الإبداع، يقول في رسالة إلى صديقته فيليس عن كتاب الحكم: "لا أدري أبداً كيف قُدر لي أن أهبك هذه الولادة، التي أقل ما يقال فيها إنَّها في غاية التعقيد". القراءةُ هي عمليةُ إشباع وتفريغ شحنة تدور في الذهن، وذكر أحد الباحثين أنَّ الكتابة "هي من المنظور الخطي"الدَّال" التخطيط والتَّمثيل الغرافي للكلام؛ حيث تشمل جملاً ومقاطع، ونصوصاً. أما من النَّاحية الدِّلالية هي فعل انفتاح اللغة، وتختلف الكتابة باختلاف مجالاتها، فهناك الكتابةُ السِّياسية، والصَّحفية، والعلمية، أمَّا الكتابةُ الأدبية فإنَّها تستحضر جميع خامات التعبير". أمَّا الكتابةُ البارزةُ أو ما تُسمى بالكتابة الطُبوغرافية فهي "تقنية كتابية بوسائل علمية حديثة تشكل عناوين وفقرات ونصوصاً بخطوط سوداء بارزة لتمييزها داخل الصَّفحة حتى تثير انتباه القارئ وتركيز حضورها في ذهنه مثل الكتابة المائلة، والكتابة البارزة". وقد أورد أحد شيوخ المحققين وهو الدكتور حُسين نصار أن أحمد عادل كمال أشار إلى فضل الكتابة وسمو منزلتها في قوله:" كما كانت معرفة البشر للكتابة إيذاناً بانتقالهم من طور إلى طور في مدارج الرقي والكمال، فكذلك الاهتداء بهذه الرسالة سيكون انتقالاً جديداً إلى درجة أعلى وأكمل في مدارج الحضارة الإنسانية والرقي الاجتماعي" وهنا تأكيد على ما قاله المولى عز وجل" اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم".


 

وتاريخياً نجد أنَّ الكتابةَ بدأتْ قبل فجر التَّاريخ مع الصُّورة، لأنَّ التَّعبيرَ كانَ في البَـدءِ بالصُّورة، وعليه فإنَّ الصُّور واللوحات المرسومة على جدار الكهوف والمعابد ما هي إلا تعبيرٌ عن الحكي، ومنها الصُورة نفسُها أو اللوحة، فاللوحة ما هي إلا تعبيرٌ بصريٌ عمَّا يجيشُ بصدر الفنان، فكانت تلك الصور وهذه اللوحات تعبيراً صادقاً عمَّا يريدُ الإنسانُ قوله، ومن هنا نقول إنَّ الكتابةَ في عهدها الأول كانت بالرموز الصُّورية، وتعتبر الكتابة المسمارية السُّومرية مع الهيروغليفية مِــنْ أقدم الكتابات، وقد انتقلت الكتابة عبر الصورة من مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي وصولاً إلى الأبجدية التي فيها بدأ الكلام على أساس الحروف الصَّـوتية، ومن ثم فقد انطلقت تلك الكتابة من جذرين أساسيين عراقي ومصري، مما يعكس التكامل الثَّقافي لحضارات الشَّرق الأدنى القديم، وكان ذلك في نهاية الألف الثَّالثة قبل الميلاد.



وكانتْ الكتابة في تراثنا العربي القديم فناً راقياً تناولته الأقلام بالدَّرس والتحليل والنقد، وقبل الكتابة كانت القراءة والحفظ، فقد قال تعالى "اقرأ" وهو من أعظم أفعال اللغة العربية شأناً وأعلاها قدراً، لماذا؟ لأنَّه فتح الآفاق للعلم والقراءة والبحث، وأخرج البشرية من الظلام إلى النور، وبعد أن قرأ الإنسان في العلم الذي أحبه ومال إليه، عليه أن يكتب تجربته عمَّا قرأ ورؤيته في ذلك، لذلك قال تعالى "ن، والقلم وما يسطرون" أي أنَّ الله سبحانه وتعالى أقسم بالقلم الذي نُمسك به للكتابة، فنعلم من هنا جيداً قدسية القلم الذي نُمسك به فله إجلال وإعظامٌ، وليس القلم فحسب بل المدادُ الذي يُكتب على الصفحات "الحبر" فقد أقسم به المولى عزو وجل وتصبح الكتابةُ عتبةً نصية لأي نصٍّ يكتب في الأدب وغير الأدب. من هنا نقول إنَّ الكتابة من الأهمية بمكان، وشرط أساسي، لكي يُمسك الإنسانُ بالقلمِ ويكتبُ، عليه أن يكون قد تشبع من القراءة، لأنَّ الكاتبَ الذي تكون قراءاتُه كثيرةً فهو كاتبٌ جيدٌ.



 من هنا لا بُـدّ أنْ نفرقَ بين عدد من المصطلحات التي تتداخل عند الكثيرين، وهي "الكتابة، التدوين، الإنشاء، التحرير، التعبير والتحبير، والتأليف" فالتَّدوين هو التسجيل والتقييد، ومنه أخذ الغيطاني "دفاتر التدوين" ثم الإنشاء الذي يأتي بعد التدوين، وقد ارتبط التعبير بالإنشاء، وهو ما كان معمولاً به في المدارس قبل ذلك فكانت مادة الإنشاء، أوالتعبير تحمل خصوصية متميزة، ترتبط بمرحلة التدريب على الكتابة، وإعداد التلميذ لكي يكون قادراً على الكتابة والبحث. بينما التحرير هو الضبط والتقويم وتصويب الخطأ وإصلاحه، لأنَّه جاء من الشدة وإصلاح الإعوجاج في الكتابة لذلك نجد كتاباً يحررون كتباً تحت عنوان تحرير وتقديم فلان، ومن جهةٍ أخرى جاء التحرير من الانعتاق من العبودية، وعليه لا يمكن للكاتب أن يكتبَ إلا وهو حرٌ، فهو يحرر ما في نفسه من أفكار ومشاعر، وقال أبو هريرة: أنا أبو هريرة المحرر أي المعتق من القيد، ومن هنا فلا نستعمل التحرير مكان الكتابة فلكلٍ وظيفته، لذلك من الخطأ أنْ نقول رئيس التحرير، ولكن الصَّوابَ أن نقول رئيس الكتَّاب.


 والتحبيرُ في الكلام هو تحسينه وتزيينه. و"الكتابة" أو"التأليف" قائمٌ على كل ما سبق، وهو أنواع: التأليف القائم على الجمع، والتأليف المنهجي، والتأليف الابتكاري الإبداعي..، من هنا وصلنا إلى مرحلة الكتابة والتي تستلزم عدداً من الشروط أولها: إتقان الأداة والأداة هنا هي اللغة، وثانيها: التمرس بالأساليب الدقيقة، ثالثها: الإلمام بالثقافة القديمة والحديثة، رابعها: تكوين قاعدة فكرية للموضوع الذي يراد الكتابة فيه.



لماذا نكتب؟  (1-2)


google-playkhamsatmostaqltradent