لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " الجزء الرابع"
كتب- محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الرابع مع لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، إن بعد الجوع شبع، وبعد الظمأ ري، وبعد السهر نوم، وبعد المرض عافية، سوف يصل الغائب ويهتدي الضال، ويفك العاني، وينقشع الظلام، فقال ابن رجب ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله تعالى يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى فى كتابه " ومن يتوكل على الله فهو حسبه" وقال الفضيل رحمه الله، والله لو يئست من الخلق، حتى لا تريد منهم شيئا، لأعطاك مولاك كل ما تريد، فاعلم أن الله يبتليك في المنع كما يبتليك في العطاء فقال تعالى " لتبلون فى أموالكم وأنفسكم" فإن الابتلاء مورد من موارد الصبر، وهو فريضة الوقت في المصيبة ، فتذكر، أن الصبر على أقدار الله، هو أحد أصول الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم " واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا" رواه أحمد والبيهقي، والصبر من جميل الخلال، و محمود الخصال، فلا تتسخط على أقدار الله، ولا تقع في سب الدهور والأزمان، ولا تلطم وجها، أو تشق جيبا، واحذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير وهو كلمة "لو" فتقول لو أني ما فعلت، فالبلاء أمر قضي وانتهى، والمؤمن يصبر اختيارا، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، فيقول عمر رضي الله عنه "وجدنا خير عيشنا بالصبر" ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه "الصبر مطية لا تكبو" فيجرى القضاء وفيه الخير نافلة، لمؤمن واثق بالله لا لاهي، وإن جاءه فرح أو نابه ترح، في الحالتين يقول الحمد لله، وقال الحسن البصرى رحمه الله "والصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده " وقال ابن القيم رحمه الله "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمنا.
وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه" وإن في المحنة منحة، وفي النقمة نعمة، فيها تقوية للمؤمن وتدريب له على الصبر، وفيها النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية، وفيها خضوع الإنسان لربه وانطراحه بين يديه، فالله تعالى يبتلى خلقه بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به فهذه من النعم في طي البلاء، وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب وقسوة القلب وما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته، وفيها العلم بحقارة الدنيا وهو أنها أدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه وتنغص حياته وتنسيه ملاذه السابقة، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتفكروا في حكم المولى في تصريف الأمور، وأنه المحمود على ذلك، المثني عليه، المشكور، واعلموا أن ما أصابكم من مصيبة.
فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير، وأن هذه الشدة واللأواء لا بد أن يفرجها من هو على كل شيء قدير، ولا بد أن يبدل الشدة بضدها والعسر بالتيسير، بذلك وعد، وهو الصادق السميع البصير، فعودوا على أنفسكم بالاعتراف بمعاصيكم وعيوبكم، وتوبوا إليه توبة نصوحا من جميع ذنوبكم، وقوموا بما أمركم الله به، وهو الصبر عند المصائب، واحتسبوا الأجر والثواب، إذا أنابتكم المكاره والنوائب، وكونوا في أوقاتكم كلها خاضعين لربكم متضرعين، وفي كل أحوالكم سائلين له كشف ما بكم ولكرمه مستعرضين، ووجهوا قلوبكم إلى من بيده خزائن الرحمة والأرزاق، وانتظروا الفرج وزوال الشدة من الرؤوف الرحيم الخلاق، فإن أفضل العبادة انتظار الفرج من الرحيم الرزاق، وإياكم أن يستولي على قلوبكم القنوط واليأس، أو تتفوهوا بالكلام الدال على التضجر والتسخط والإبلاس، فإن المؤمن لا يزال يسأل ربه ويطمع في فضله ويرجوه، ولا يزال مفتقرا إليه في جلب المنافع، ودفع المضار من جميع الوجوه.
إن أصابته السراء كان في مقدمة الشاكرين، وإن نالته الضراء فهو من الصابرين، يعلم أنه لا رب له غير الله يقصده ويدعوه، ولا إله له سواه يؤمله ويرجوه، ليس له عن باب مولاه تحول ولا انصراف، ولا لقلبه تلفت إلى غيره، ولا تعلق ولا انحراف، لا تخرجه السراء والنعم إلى الطغيان والبطر، ولا يكون هلوعا عند مس الضراء متسخطا للقضاء والقدر، يتمشى مع الأقدار السارة والمحزنة بطمأنينة وسكون، ويهدي الله لها قلبه، لعلمه أنها تقدير من يقول للشيء كن فيكون، فهذا عبد موفق قد ربح على ربه، وقام بعبوديته في جميع التقلبات، وقد نال السعادتين راحة البال، وحسن الحال والمآل، واكتسب الخيرات، فيقول ابن القيم رحمه الله إن من طبيعة الحياة الدنيا, الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها فهي دار الأدواء والشدة والضنك, ولهذا كان ما تتميز به الجنة عن الدنيا أنها ليس فيها هم ولا غم، ولهذا كان من سنة الله عز وجل بعد الشدة ومقاومة الظلم والظالمين والفاسدين والمستبدين وبذل أقصى الجهد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.