عالم الاتصال الرقمي.. سياج الحداثة المعاصرة
الدكتور: أحمد زايد
أستاذ علم الاجتماع وعضو مجلس الشيوخ
درجت النظرية النقدية في علم الاجتماع على النظر إلى مشروع الحداثة على أنه ينتج مجتمعًا مصفدًا خاليًا من الروح، أو أنه ينتج مجتمعًا ذا بعد واحد هو البعد التكنولوجي الذي يواري الجوانب المعنوية والإنسانية، أو أنه ينتج عقلًا أدائيًّا محضًا لا يعرف إلا حساب المكسب والخسارة. ظهرت هذه الأوصاف لمشروع الحداثة في كتابات «ماكس فيبر» وفي كتابات مؤسسي مدرسة فرانكفورت في عشرينيات القرن الماضي، ولقد امتد هذا النقد في أشكال معاصرة نظرت إلى مشروع الحداثة على أنه يحاصر الفرد ويسلبه حريته، أو أنه يحوله إلى إنسان ضال Homeless لا يمل البحث عن ملاذ.
وعلى هذه الخلفية نجادل في هذا المقال بأن عالم الاتصال الرقمي الذي أنتجه مشروع الحداثة المعولمة في القرن الواحد والعشرين يمثل سياجًا يحاصر الإنسان المعاصر، ويخلق عالمًا جديدًا يجعل الإنسان يسابق الزمن ويلهث جريًا وراء مستحدثات الاتصال؛ لكي يحقق لنفسه تكيفًا مع الحياة المعاصرة. فنحن أمام تغير كبير يكاد يبدل الحياة جملة (باستخدام تعبير ابن خلدون)، ونحن في أغلب الأحوال غير قادرين على أن نواصل تكيفنا معه، ومع التحديات المستجدة والمستمرة التي يطرحها علينا.
عالم الاتصال الرقمي: محاولة للتعريف:
يشير مفهوم الاتصال الرقمي Digital Media إلى تكنولوجيا الاتصال، وما تحويه من مادة يمكن استقبالها واستهلاكها بطريقة مرقمنة، وبناء عليه، فإن المفهوم يكشف عن جانبين: يتعلق الأول منهما بمفهوم الاتصال الذي يشير إلى وسائط نقل المعلومات كأجهزة الحاسوب، أو الهاتف النقال، أو المنصات الإعلامية بما تحوي من أجهزة متعددة ومركبة. ويتعلق الثاني بالجانب الرقمي الذي يشير إلى المادة الذكية التي تحملها هذه الأجهزة أو التي تبث من خلالها، والطرق المختلفة لتلقيها من قبل المستهلكين، فهم يشتركون جميعًا في أنهم يستقبلون هذه البيانات والمعلومات عبر أجهزة مرقمنة أو شاشات مرقمنة. ومن الواضح أن المفهوم برمته يتصل بعالم تكنولوجيا الاتصال، ولذلك يمكن تعريفه ببساطة بأنه أي شكل من أشكال الاتصال الذي يعتمد على أجهزة إلكترونية في صناعة المعلومات ونظمها الإلكترونية، وفي تخزينها، واستخدامها، ونقلها إلى جمهور واسع عبر وسائط تكنولوجية مختلفة.
وعندما نتحدث عن عالم الاتصال الرقمي فإننا نتحدث عن نطاق واسع يستغرق مجالات عديدة، تجمعها سمة واحدة، وهي الرقمنة، أي أنها تصنع وتستهلك عبر وسائط اتصالية مرقمنة، ومن هذه المجالات: مجال الاستماع والمشاهدة، والإعلانات التي يتم ترويجها عبر النظام الشبكي، والعالم الافتراضي بكل مكوناته، والوسائل الاتصالية الاجتماعية، وألعاب الفيديو، والمواقع الإلكترونية والصور والكتب المرقمنة.
ويعتمد الاتصال المرقمن على نظام للاتصال الشبكي الذي يمكن من خلاله أن يستهلك عدد كبير من الأفراد المادة الاتصالية المرقمنة في الوقت ذاته، كما يمكِّن الأفراد من الاتصال وتبادل المعلومات والمعارف بين المنخرطين فيه، فضلًا عن ذلك، فإنه يمكِّنهم من تبادل المعلومات ومن تعديلها والإضافة إليها، ولذلك يقال: إن هذا المجتمع الشبكي يزيد من معدلات الابتكار والتجديد، ويمكِّن قطاع الأعمال الكبرى من نشر إعلاناته وتطوير أعماله، ويرفع من مستوى الإنتاجية لأنه يوفر الوقت عبر إمكانات الاتصال الإلكتروني السريع، والتوسع في التجارة الإلكترونية، ويساعد على عمليات التقييم الذاتي عبر مخازن المعلومات الكبرى والمنصات الإلكترونية التربوية، ويمكِّن الباحثين عن العمل من تصفح أكبر قدر من المعلومات عن فرص العمل المتاحة، وينشر الفنون بأشكالها المختلفة على نطاق واسع، بل يسهم في صناعتها وتسويقها عبر نظم محوسبة.
عالم الرقمنة: من الضرورة إلى الهرولة
لقد حولت التطورات المتلاحقة عالم الاتصال إلى ضرورة حياتية يمكن أن نطلق عليها «ضرورة الرقمنة»؛ فلم تعد الرقمنة نموذجًا مثاليًّا أو أملًا مستقبليًّا نصبو إلى تحقيقه، بل أصبحت –مثل نمط الحداثة المُعَوْلَم الذي خلقها- قدرًا محتومًا لا بد من الدخول إليه والانخراط في شبكاته المعقدة. فهذا العالم يحول كل شيء إلى رقم، ويفرض على البشر أن يتعاملوا مع أجهزة مرقمنة وهم يقضون مصالحهم وتعاملاتهم اليومية: في البنوك والمحلات التجارية والمطاعم، وفي سداد فواتير خدمات: المياه والكهرباء والغاز، وأشكال أخرى متعددة من المعاملات. ومن ناحية أخرى فإن الرقمنة تفرض على الأسرة والصغار الذين تقوم على تربيتهم، أشكالًا من التعلم ومن الترفيه عبر الوسائط الإلكترونية لم يكن لهم إليها سبيل من قبل.
وتؤسس الرقمنة بذلك لعالم جديد يمتزج بالعالم الواقعي ويصبح جزءًا منه رغم أنه يفرض عليه من الخارج، وأصبح على الإنسان أن يطور من نفسه ومن قدراته؛ لكي يكون قادرًا على أن يتكيف مع هذا العالم الجديد. ولا شك أن الفشل في تحقيق هذه الضرورة يجعل الإنسان عاجزًا عن الوصول إلى درجات معقولة من التكيف، بل إن هذا العجز يدفعه إلى الهامش؛ إذ يضعه في زمرة من الناس تعاني من شكل جديد من الأمية وهي الأمية الرقمية. ولقد تحدث علماء العلوم الاجتماعية منذ عقدين من الزمان عن الهوة الرقمية أو الانقسام الرقمي Digital Divide الذي أصبح يتوازى مع انقسامات جندرية وطبقية وإثنية وتعليمية.
إننا هنا بصدد التمييز بين البشر بناء على القدرة على التواصل عبر الوسائط الرقمية، والإشارة إلى أشكال جديدة من الأمية الرقمية أو العجز الرقمي، فلقد صارت الضرورة الرقمية تعمل هنا على الانقسام داخل البلد الواحد، وبين البلدان المختلفة وفقًا للولوج إلى العالم الرقمي والإسهام في عمليات الإنتاج والاستهلاك التي يفرضها، ونفترض هنا أن هذا الظرف يزيد من تحول عالم الحداثة إلى عالم مادي لا تتزايد فيه المخاطر فحسب، بل يتزايد فيه السباق والهرولة التي لا تنتهي، والتي تأخذ العالم إلى مناطق تبدو مجهولة بالنسبة للأشخاص العاديين، وإن بدت معلومة بالنسبة لقطاع صغير من خبراء الشبكات وبرامج الحاسوب والضفائر الإلكترونية.
ولا نجادل هنا في حجم الفوائد التي يقدمها هذا الظرف الجديد إلى الإنسان، أو في أهميتها، ولكن لا بد أن ندرك أنه في الوقت الذي تتزايد فيه الفوائد، تتزايد أيضًا الخسائر؛ وجل هذه الخسائر يرتبط بما يصيب الإنسانية من سرعة وسهولة تجعل المجتمعات والبشر الذين يسكنونها معلقين بعالم مجهول يهرولون للحاق به، وهذا العالم لا يوجد بينهم، وإنما يحيط بهم عبر الهواء الذي حولهم، ويدخل عليهم من خلال أجهزة يتسابقون في اقتنائها، وبناء على هذا السباق المحموم الذي تشكل عبر رقمنة العالم، تغيرت أولويات الدول وأولويات الاستهلاك.
فعلى مستوى الدول، أصبحت خطابات الوصول إلى مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة من بعده خطابات ذات أولوية مطلقة، ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد الوصول إلى المعلومات
أو تخزينها أو استخدامها، وإنما يعني أيضًا القدرة على تنمية الابتكار في عالم التقانة، وفي تطبيقاتها الذكية، والقدرة على استخدامها لتحسين أحوال السكان. ولا شك أن هذا المطلب يعد مطلبًا مهمًّا وضروريًّا، ولكنه يضع المجتمعات الفقيرة والطبقات الفقيرة في عوالم بعيدة مهمشة؛ فهذه المجتمعات وتلك الطبقات تعاني من مشكلات أخرى، مشكلات الفقر والحرمان، والكفاح من أجل الوجود المادي وليس الوجود الرقمي. وقد نصل هنا إلى النتيجة التي نود أن نؤكدها، وهي أن ظرف الرقمنة في الحداثة المعاصر يحقق للبشر أهدافًا نبيلة في تسهيل أمور حياتهم، ولكن الهرولة الشديدة فيه، والتدفق الهائل لمعطياته، يخلقان سياجًا جديدًا للحداثة يحاصر الدول والمجتمعات الأكثر فقرًا، والأقل قدرة على تخليق آليات تكيف مع هذا العالم الجديد، ويضعها هناك في ركن قصي تَنظُر وتَنتظِر.
أما على مستوى الفرد، فإن السياج يأخذ شكلًا آخر، يمكن أن نطلق عليه «السياج الاستهلاكي»، السياج السابق على الاقتناء، وعلى رموز التمايز الطبقي. فالظرف الذي يفرضه عالم الرقمنة يصنع سياجًا استهلاكيًّا جديدًا يتسع ويتشابك بسرعة، والأرقام المتاحة تؤشر بكثير من الصدق على تنامي هذا القطاع؛ فوفقًا للتقرير الذي أصدره موقع We Are Social بالتعاون مع شركة Hootsuite، في يوليو 2021، بلغ عدد سكان العالم المشتركين في الإنترنت 4,8 مليارات نسمة، بنسبة 61% من سكان العالم. ويستخدم قطاع كبير من هؤلاء السكان الهاتف النقال في تعاملاتهم المرقمنة تصل نسبته إلى 92% من جمهور الإنترنت عبر العالم. وتستقبل وسائط التواصل الاجتماعي عددًا كبيرًا من هؤلاء؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد مستخدمي (الفيسبوك) نحو 2,85 مليار فرد، واليوتيوب 2,29 مليار، والواتساب ٢ مليار، والإنستجرام 1,4 مليار. وفي الوقت الذي تتزايد فيه مؤشرات الطلب على هذا النحو، تتزايد مؤشرات العرض كما تدل عليها الأعداد المتزايدة من التطبيقات الإلكترونية التي تتاح للاستخدام على المنصات الرئيسة في الشبكة الإلكترونية، وقد بلغت أعداد هذه التطبيقات على منصة جوجل بلس نحو 3,5 ملايين تطبيق، وعلى منصة آبل ستور نحو 2,6 مليون تطبيق، وعلى منصة الأمازون نحو ٤٦٠ ألف تطبيق.
وتكشف هذه الإحصاءات عن سباق على مستويين: الأول هو سباق الاستهلاك كما يتضح في الأعداد المتزايدة لمستخدمي الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والثاني في سباق إنتاج التطبيقات عبر المنصات الإلكترونية الشهيرة، ويمكن أن نضيف هنا سباقًا ثالثًا يتضح في حجم الاستثمارات التي تنفق على البحث والتطوير في مجال الرقمنة؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن شركة سامسونج وحدها أنفقت عام ٢٠١٥ نحو 12,5 مليار يورو على البحث والتطوير في مجال الإلكترونيات (المصدر السابق).
إننا هنا بصدد سباق كبير، تعبر عنه المعادلة التالية:
مزيد من البحث والتطوير + مزيد من الاختراع = مزيد من الهرولة الاستهلاكية
وقد يقال إن هذه الهرولة الاستهلاكية مفيدة؛ إذ تمكِّن البشر من أداء مهامهم بسرعة، وتحقق لهم عيشًا سهلًا، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذه المقولة البسيطة، فثمة مشكلتان مهمتان يجب الالتفات إليهما هنا، ونحن ننظر إلى هذا السياج الاستهلاكي الجديد:
الأولى: إن هذا الظرف يضع المجتمعات الفقيرة في دائرة سباق لا تستطيع أن تسير فيه إلى ما لا نهاية.
والثانية: أنه يخلق –خاصة في هذه الدول الفقيرة– ثقافة استهلاكية ترفيهية يكون فيها البحث عن التمايز الاستهلاكي أسبق وأهم من البحث عن التمايز العلمي والتقني والمهاري، وفي هذا الظرف يصبح الوجود الإنساني لصيقًا بعمليات الاستهلاك، ويدخل الأفراد في دوائر مفرغة من اقتناء الطبعات الأحدث من الأجهزة، ومن استهلاك أحدث التطبيقات، والتخلص من الأقدم؛ فتصبح الحياة هرولة فارغة لا معنى لها، ويزداد هذا الأمر تفاقمًا في المجتمعات المستهلكِة التي لا تسهم في التراكم العلمي والتقني والثقافي على المستوى العالمي.
التحضر المرقمن والذات المرقمنة
قد يدفعنا ظرف عالم الاتصال الرقمي إلى سؤال حول طبيعة الاجتماع البشري الذي يتخلق عبر التوسع الكبير في تكنولوجيا الرقمنة واستخداماتها، ونخص بالاهتمام هنا موضوعين قد لا نجد لهما إشارات كثيرة في تناول هذه القضية، يرتبط الأول بعمليات التحضر المعاصرة التي تتأثر كثيرًا بهذه التغيرات، والثاني بطبيعة الذات المتخلقة عنها؛ وفي الحالتين سوف نجد أن عالم الرقمنة يشكل سياجًا حداثيًّا جديدًا؛ إذ يفرض على سكان المدن –والقرى من بعد ذلك– أنماطًا مبرمجة من السلوك، عبر ذوات مرقمنة لا تعرف عمق المعاني والرموز والتواصل الإنساني.
أ- التحضر المرقمن
تتغير المدن في العالم المُعَوْلَم على نحو كبير، وتتحول المجتمعات الريفية بشكل سريع إلى مجتمعات حضرية، ولقد أدت هذه التغيرات إلى تزايد تعداد سكان المدن الذي أصبح في عام ٢٠١٧ يزيد على ٤ مليارات نسمة؛ مما يدل على أن سكان المدن يتزايدون بشكل سريع، فقد كان هذا الرقم في عام ٢٠١٠ نحو ٣ مليارات نسمة وتشير التنبؤات إلى أنه بحلول عام ٢٠٥٠ سوف يصل إلى أكثر من ٧ مليارات؛ أي ثلثي سكان العالم في هذا الوقت (البيانات مأخوذة من موقع ourworldindata.org). صحيح أن هذا التحضر الواسع النطاق قد أدى إلى مشكلات من أهمها زيادة تعداد سكان العشوائيات الذي يقدر بنحو ثلث سكان المدن الحالية، إلا أنه أنتج -مع التغيرات التي أشرنا إليها في عالم تكنولوجيا الاتصال المرقمن- نوعية جديدة من المدن يطلق عليها المدن المرقمنة Digital Cities أو المدن الذكية Smart Cities، وهو مفهوم يشير إلى المدن المرتبطة بشبكة قوية للمعلومات، والمزودة بمنصات تكنولوجية لإدارة المعلومات والاتصال والحوكمة الإلكترونية، والتي يمكن من خلالها التعامل مع أحجام ضخمة من البيانات والمعلومات، بحيث تستطيع المدينة أن توفر لسكانها أعلى درجة من الخدمات وأن تدير البيئة الحضرية على نحو رشيد، وأن توظف الإمكانات الرقمية لتأسيس البنية التحتية على أسس تكنولوجية، والحفاظ على البيئة واستدامتها، وتشغيل نظام فعال للنقل العام، ووضع خطط مستقبلية رصينة للتطوير الحضري، وتمكين البشر من العيش في المدينة واستخدام مواردها. وتحاول المدن الذكية أن تكون مدنًا مستدامة، وذلك بأن تجمع بين القدرات الهائلة على استخدام التكنولوجيا الرقمية، وأن تحافظ على البيئة في ذلك الوقت. ولذا، فإن مفهوم المدن الذكية قد ارتبط بمفاهيم أخرى مثل: مدن الحدائق، والمدن المستدامة، والمدن المحافظة على الطبيعة، والمدن الخضراء، والمدن قوية الصلابة (أو الجلدة)، ومدن الابتكار، ومدن المستقبل. ويثير ظهور المدن الذكية أسئلة كثيرة حول طبيعة الحياة الاجتماعية فيها، وهل تستطيع بالفعل أن تحقق السعادة لسكانها في الوقت الذي يفقدون فيه الكثير من تفاعلاتهم اليومية الحية؟ ويفتح مثل هذا السؤال الأفق نحو التفكير في مستقبل التحضر، ومستقبل المدن، وهل ستمكِّن التكنولوجيا الرقمية الذكية البشرَ من تحقيق حياة سعيدة وبنوعية حياة متميزة؟ أم أنها يمكن أن تتحول إلى مدن ميتة لا كلام فيها ولا صوت ولا تفاعل إلا عبر الآلة، أو لنقل سياج بلا روح؟ قد يكون لهذا النوع من المدن مزايا لأنها توفر لسكانها مطالبهم بشكل سهل وربما تكون مدن سلام وهدوء لا عنف فيها ولا جريمة، ولكنها بالتأكيد سوف تكون مدنًا مسلوبة الروح، وقد يهجرها سكانها إلى هدوء الريف وصفائه القديم.
ب - الذات المرقمنة
ماذا عسى أن تكون الذات التي تعيش في هذا العالم الذي يشع رقمنة من كل حدب وصوب؟ كيف نعرف هذه الذات؟ ما هويتها؟ وهل تمنحها الرقمنة مزيدًا من الحرية؟ أم أنها تخلق ذاتًا مقيدة تسيجها المادة والتكنولوجيا؟ إنه بإمكاننا هنا أن نتحدث عن الذات المرقمنة Digital Self، وقد استُخدِم من قبل مفهوم المواطنة المرقمنة Digital Citizenship ليشير إلى المواطن القادر على استخدام المعلومات والبيانات واحترام سريتها وخصوصيتها واحترام حقوق الملكية الفكرية، وتنظيم وقته بين العالم الرقمي والعالم الواقعي في حساب خطواته بدقة على طريق الرقمنة. وأنا أميل في هذا السياق إلى استخدام مفهوم «الذات المرقمنة»؛ فتصوير المواطن الرقمي يتم على أنه مواطن مثالي يمتلك قدرات خاصة للتعامل مع عالم الأرقام على نحو أخلاقي مثالي، كما يتم عادة عند الحديث عن المواطن النشِط في الحياة العادية. إن مفهوم الذات المرقمنة يستخدم هنا بفهم أوسع للتعبير عن الوجود الفردي للشخص المرقمن، الذي قد ينم وجوده لا عن جوانب إيجابية فقط بل عن جوانب سلبية وكوابح حياتية أيضًا.
ولا شك أن الذات المرقمنة تتمتع بمزايا عديدة؛ فهي تجد الحياة سهلة ميسورة، وتحصل على الخدمات بسرعة، ولا شك أنها تحقق أيضًا درجة من الرشد والعقلانية في الاختيار، وقد تحقق درجة عالية من الأمن أيضًا. ولكن هذا الوجود الآمن يواجه بمشكلات تكشف عن الوجه الآخر لأنطولوجيا الذات المرقمنة، وترتبط المشكلة الأولى بهوية الذات، التي تعرف هنا وكأنها هوية مقطوعة الصلة بالتاريخ، ومنقطعة الصلة بالعالم المحيط، تتخلى بسرعة عن ثقافتها ورموزها، وتعرف نفسها على أنها مجرد رقم يحمل مجموعة من الأرقام، وتتعلق المشكلة الثانية بحرية الذات، حقيقةً إن الذات المرقمنة هي بالضرورة ذات حرة لأنها تملك فرصة الاختيار الرشيد العقلاني، ولكن تبقى هذه الحرية مقيدة بحدود الأكواد والشفرات الإلكترونية التي تنظم عمل الأجهزة والكروت الذكية. وهنا تظهر مشكلة أخرى تتصل بموضوع الحرية، وهي مشكلة المراقبة الذكية التي يتعرض لها الأفراد، سواء وهم يمارسون حياتهم اليومية، أو وهم يمارسون نشاطهم عبر الشبكات الإلكترونية. صحيح أن الاتصال الرقمي يفتح عالمًا كبيرًا وواسعًا لممارسة الحرية الشخصية، ولكن هذا العالم الذي ينتج هذا القدر الهائل من الحرية ينتج في الوقت نفسه سياجًا للمراقبة، بحيث تصبح الحرية في مجملها –أقصد الحرية في الحياة العادية والحرية عبر الاتصال الشبكي- محل شك كبير، وأخيرًا توجد مشكلة العلاقة بالآخر، وإمكانية التواصل التي تؤسس ذات البين، وتؤسس للثقة والتعاطف، وبناء الذات العامة والإرادة الجمعية؛ الأمر الذي يطرح مفهومًا جديدًا ومغايرًا للآخرية.
خاتمة
ماذا عسى أن يكون المستقبل في هذا الظرف؟ يحتاج هذا السؤال إلى تأملات كثيرة، وأحسب أن ما توصلنا إليه في هذا المقال يوحي بأن المستقبل يمكن أن يحمل معه أشكالًا من الهروب من هذا العالم إلى يوتوبيات صغيرة بعيدة، وإمكانية للنفور والتخلص من هذا السياج الرقمي؛ طلبًا للحرية والخصوصية، بل ثمة إمكانات لأن تتحول الرقمنة نفسها إلى أن تنتج ما يُمكن أن نسميه «رقمنة الخصوصية»، ويحتاج هذا الموضوع إلى مزيد من التأمل والدرس.