إدارة الوحدات العقارية وصيانتها
الدكتورة: رشا مصطفى عوض
رئيس الإدارة المركزية لدعم القرار- مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار
وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرًا بصياغة مُخطط مُتكامل لمنظومة إدارة أحياء ومرافق العاصمة الإدارية الجديدة، وصيانتها؛ خاصة المنطقة المركزية، والحي الحكومي، والمرافق العامة المُتنوعة. يصبو هذا التوجه الرئاسي إلى تعزيز كفاءة عمليات إدارة وتشغيل العاصمة الجديدة، وضمان استدامتها. إيضًا، يرنو هذا النهج نحو تأصيل نموذج يُحتذى به لإدارة وصيانة الثروات العقارية بالدولة المصرية، حتى يُمكن تعميمه في جميع ربوعها المُزدهرة.
اللافت للانتباه أن حُسن إدارة وصيانة العقارات يحتل اهتمامًا بالغًا لدى كلٍ من الأفراد، والمالكين، والمستأجرين، وحكومات الدول على حدٍ سواء. ويعزو ذلك لأسباب عدة، يأتي في مقدمتها الآتي:
- عِظم حجم هذا القطاع؛ حيث تأتي 70% من إجمالي الثروات العالمية في هيئة أراضي وعقارات.
- تُلبي العقارات احتياجات إنسانية متنوعة؛ لأنها تُوفَّر المسكن والمباني التعليمية والترفيهية والمرافق المجتمعية، فجميعُنا يعيش ويتعلم ويلهو ويعمل في عقاراتٍ.
- تُعدُّ التصميمات المِعيارية المُتميزة للمباني رمزًا لثقافة المجتمعات وحضاراتها، وأحد المقومات الرئيسة للتنمية المكانية، كما أنها مظهر يُؤسس صورة ذهنية لأحوال الدولة.
وحتى يتسنى لنا تصميم نموذجًا مصريًّا فعَّالًا لإدارة وصيانة العقارات ومرافقها، فإننا بحاجة إلى إطارٍ تشريعيٍ ومُؤسسيٍ مُنضبط وفعَّال. لذلك، تبدو أهمية استكشاف تجارب وخبرات دولية متميزة، لنستلهم منها أفكارًا رصينة. واسهامًا في ذلك، تُلقي الأسطر التالية الضوء على ثلاث منها.
أولًا: إدارة العقار وصيانته تبدأ أثناء تصميمه
في عام 2018، أصدر فريق "الميثاق العالمي للأمم المتحدة" (UN Global Combact) بالتعاون مع "المؤسسة الملكية للمساحين القانونيين" (Royal Institution of Chartered Surveyors, RICS) دراسة غاية في الأهمية، تحمل عنوان "تعزيز قطاع الأعمال المستدام في الأراضي والتشييد والاستثمار العقاري: جعل أهداف التنمية المستدامة حقيقة". أكدت الدراسة على الدور الرئيس لقطاع الأراضي والعقارات في إنجاز غالبية الأهداف الأممية للتنمية المستدامة 2030. ليس هذا فحسب، ولكنها لفتت الانتباه إلى أن عملية إدارة وصيانة العقارات ترتبط بدورة حياة العقار كاملةً التي تم تقسيمها إلى ثلاث مراحل.
تختص المرحلة الأولى بتطوير العقار، وفيها يتم تغيير حالة استخدام الأرض، من خلال التصميم المعماري لسطحها وما فوقها وأسفلها، مع تنفيذ عمليات التشييد؛ وجميعها خطوات يقوم عليها عادة المُطور العقاري وليس المُستفيد النهائي منه. ولا شك في أن تخطيط الأرض أو التصميم السيء للعقار يحمل بين طياته تداعيات سلبية جمة خلال فترة عمر العقار، خاصة إذا كان يعيبه مثالب يستحيل تصحيحها في مرحلة لاحقة من قِبل المستخدم النهائي. مثال على ذلك، إذا تم بناء العقار بموادٍ ذات جودة منخفضة أو غير صديقة للبيئة، فإن ذلك يخلق مشكلات في عمليات الصيانة اللاحقة، وتحديات عند الشروع في تجديده، كما أنه ينتقص من دوره في تعزيز الاستدامة البيئية.
تتمثل المرحلة الثانية من دورة حياة العقار في استخدامه من قِبل المستفيد النهائي، وهي الفترة التي تمتد منذ أول استخدام للمستفيد منه، وحتى يُصبح العقار غير صالح للاستخدام، أو يتم اتخاذ قرار بإحلاله/ تجديده. هنا، يُمكن اعتبار أن استخدام العقار وصيانته بمثابة وجهين لعملة واحدة؛ حيث أن العقار الذي يتم تشغيله وصيانته وفق نهج جيد، يصونه ويُحافظ عليه، لن يحتاج حتمًا إلى عمليات تجديد أو إصلاح واسعة النطاق في مرحلة مبكرة من حياته، مقارنة بالوضع الذي سيكون عليه إذا كانت عمليات التشغيل تتسم بالسوء أو يتم التفريط في صيانته.
تعكس المرحلة الثالثة والأخيرة فترة انتهاء الحياة المادية للعقار، والتي تبدأ نتيجة عوامل عدة، من بينها تغيُّر تفضيلات المستخدم/ المالك بشأنه؛ فقد يتجه إلى إزالة العقار الذي يملكه لبناء آخر أكثر حداثة. كذلك، قد تتردى حالة العقار كليًّا أو جزئيًّا، ويُصبح خطرًا على حياة قاطنيه، نتيجة سوء أعمال التشغيل و/ أو الصيانة خلال فترة الاستخدام، أو تقادمه، أو لتغيرات تتبناها الدولة في سياق عمليات التطوير الحضاري، أو حتى نتيجة لكارثة طبيعية أو حادث ألم به. خلال هذه المرحلة، يتطلب الأمر إدارة عمليات إصلاح/ هدم العقار حفاظًا على السلامة الإنسانية والبيئية، بالإضافة إلى صيانة الأرض التي كانت مُخصصة له وإعادة تأهيلها.
بعبارة أخرى، تحتاج العقارات إلى عمليات إدارة وصيانة استباقية، قبل مرحلة استخدامها، جنبًا إلى جنبٍ مع عمليات لاحقة لإدارتها وصيانتها خلال فترة التشغيل، والإحلال والتجديد؛ وإن كانت الجهة المنوط بها أداء هذه العمليات تختلف من مرحلة عمرية لأخرى.
ثانيًّا: تقسيم الوحدة العقارية يسبق إدارتها وصيانتها
وفقًا للخبرات الدولية، يُعدُّ التحديد القانوني الدقيق للملكية العقارية حجر الزاوية لاستخدام الوحدات العقارية وإدارتها، الأمر الذي أفرد له المُشرع مجالات رحبة، وسنَّ له قوانين عدة تتكامل فيما بينها. للتدليل على ذلك، يمكن الاسترشاد بتجربة ولاية نيويورك الأمريكية، والتي تضم مظلة تشريعاتها العقارية العديد من القوانين ذات الصلة، في مُقدمتها:
- قانون المساكن المُتعددة (Multiple Dwelling Law)، المعني بأحكام "المسكن المُتعدد" الذي يتم تعريفه على أنه المسكن الذي يتم تأجيره، أو استئجاره، أو شغله، أو تملكه من قِبل ثلاث عائلات على الأقل تعيش فيه بشكل مستقل عن بعضها البعض. يتمثل الغرض الرئيس من القانون في وضع جميع الأحكام المتعلقة بهذه الوحدات، وسماتها، والخصائص الرئيسة الواجب توافرها فيها. وللوقوف على درجة التفصيل فيما يخص شروط البناء، على سبيل المثال، ينص القانون على أنه لا يجوز لأي غرفة في شقة مُكونة من ثلاث غرف أو أقل، يمتد عمقها لأكثر من ثلاثين قدمًا، ألا يتم فتح نافذة بها على الفناء المُقابل لها.
- القانون الإطاري للملكية العقارية المُشتركة (Condominium Act)، ينطبق على حالة المبنى متعدد الوحدات السكنية، أو مُجمع من المباني السكنية سواء المتصلة أو غير المتصلة، يملك وحداتها أشخاص مختلفين، مثلما الحال في المشروعات السكنية بالعاصمة الإدارية الجديدة وغيرها، سواء كانت مشروعات عقارية حكومية أو خاصة. يهدف هذا القانون إلى تبيان أحكام ملكية العناصر المشتركة (مثل الأرض التي يقع عليها المبنى، والأعمدة والممرات والردهات والسلالم، والساحات والحدائق والمرافق الترفيهية والمجتمعية، وغيرها) التي يتم تحويلها إلى "مصلحة" يشترك فيها جميع المالكين، مع تقسيمها عليهم وفقًا لمعايير ثابتة بالقانون.
بعبارة أخرى، تُحدد قوانين ولاية نيويورك الأحكام الخاصة بتطوير الوحدات السكنية، وتوزيع ملكيتها على أصحابها، بما في ذلك "الملكية الفردية" الأصيلة المتمثلة في مساحة الوحدة العقارية، مُضافًا إليها نصيب المالك من "المصالح المُشتركة" (Shared Interests) المُخصصة له نتيجة ملكيته لها، دون تركهًا على المشاع بغير تحديد صريح. ويُطلق على هذه العملية أيضًا نظام "تقسيم (أو فرز ) الوحدات العقارية" (Subdivision) الذي يتم من خلاله وصف حقوق وواجبات كل وحدة عقارية، مع تنظيم العلاقة بين المُلاك، بما يضمن حفظ الحقوق وحسن الانتفاع بها.
الجدير بالذكر أن بعض البلدان العربية قامت بتوطين هذا النهج القانوني، ومنها على سبيل المثال المملكة العربية السعودية التي أصدرت مؤخرًا "نظام ملكية الوحدات العقارية وفرزها وإدارتها"، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 85)، ولائحته التنفيذية. في هذا السياق، يتم تقسيم العقارات إلى وحدات مُستقلة، سواء كانت تجارية أو سكنية أو متعددة الاستخدام، مع تحديد نصيب الوحدة من الأرض، والمناطق المشتركة بين الوحدات.
تُعدُّ وزارة الإسكان السعودية هي الجهة المنوط بها الإشراف على نشاط فرز الوحدات العقارية، والذي يقوم عليه المكاتب الهندسية والمساحية المُعتمدة، بعد تقدم المالك/ المُطور العقاري للحصول على الخدمة ومتابعتها إلكترونيًّا.
ثالثًا: إقامة مؤسسات لإدارة وصيانة العقارات
حفاظًا على الثروة العقارية بعد فرزها وتقسيمها، اتجهت بلدان عدة لتأسيس جهات مُختصة تقوم على إدارتها وصيانتها، بدلًا من اتحاد المُلاك التقليدي. مثال على ذلك، يلتزم كل مُطور عقاري في ولاية نيويورك الأمريكية بتأسيس ما يُطلق عليه "جمعية مُلاك المنازل" (Homeowners Association)، وهي مؤسسة يتم إنشاؤها لإدارة مُجمع عقاري و/أو وحدات ملكية عقارية مُشتركة. الجدير بالذكر أن ولاية نيويورك ليس لديها قانون محدد يحكم هذا النوع من الجمعيات، ولكنها تخضع لقانون نيويورك للمؤسسات غير الربحية، كما أن أنشطتها تلتزم بأحكام قانون حماية المستهلك.
في المُقابل، تفرد ولاية "فيكتوريا" الاسترالية قانونًا خاصًا للشركات القائمة على إدارة الملكية العقارية المُشتركة، وهو "قانون شركات المُلاك" (The Owners Corporation Act)، الصادر عام 2006. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإصدارة الأخيرة من القانون - التي دخلت حيز التنفيذ في 29 مارس 2021 - تقع في 142 صفحة.
يُمكن أيضًا الاستئناس بتجربة مُقاطعة "أونتاريو" الكندية؛ حيث يُنشيء "القانون الإطاري للملكية العقارية المشتركة" (Condominium Act) الجديد – الذي دخل حيز التنفيذ في أكتوبر 2019 - "شركات الملكية العقارية المُشتركة" (Condominium Corporation)، ويتمثل هدفها الرئيس في إدارة العقار والأصول القائمة نيابة عن المالكين. مع اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان أن مالكي وشاغلي الوحدات العقارية ومستخدمي العناصر المُشتركة والعاملين بالشركة يمتثلون لأحكام القانون. الجدير بالذكر أن القانون ينطوي على:
- أحكام تشغيل الملكية العقارية، ومن بينها قيام الشركة بإعداد موازنة سنوية لها، على أن يُسهم المُلاك في المصروفات/ النفقات المشتركة، والتي لا يستثني القانون أي مالك منها.
- الأحكام الخاصة بأعمال الإصلاح والصيانة؛ حيث تكون الشركة مسؤولة عن أعمال إصلاح الوحدات والعناصر المشتركة بعد تعرضها للضرر، بما يتوافق مع معايير البناء المطبقة.
- أحكام التأمين؛ حيث يجب على الشركة القيام بالتأمين على الملكية العقارية المشتركة نيابة عن المالكين، في مواجهة الأضرار التي قد تلحق بالوحدات العقارية والعناصر المشتركة.
اتصالًا، أنشأ القانون "هيئة الملكية العقارية المُشتركة" (Condominium Authority of Ontario) باعتبارها مؤسسة حكومية غير هادفة للربح، تسعى لتحسين مستوى المعيشة في العقارات المشتركة، من خلال تقديم خدمات للمالكين والمقيمين ومديري العقار، ومنها على سبيل المثال:
- توفير المعلومات التي يحتاج إليها المالكون والمقيمون، لفهم حقوقهم ومسؤولياتهم.
- تنفيذ تدريب الزامي لمديري الوحدات السكنية ذات الملكية المشتركة.
- تسوية النزاعات ذات الصلة بالملكية المشتركة، من خلال المحكمة المتخصصة التابعة لها (The Condominium Authority Tribunal, CAT).
رسالة ختامية
تصبو العاصمة الإدارية الجديدة إلى خلق نمط حياة مختلف لملايين المصريين، تمتزج فيها المباني الحكومية والسكنية، والمال، والأعمال، والترفيه، والخدمات الاجتماعية، والمساحات الخضراء الطبيعية. وفي قلب العاصمة الجديدة، يأتي الحي الحكومي الذي قررت الإدارة الحكومية أن تعهد خدماته – بما في ذلك من أمن وصيانة ونظافة – إلى شركات خاصة، حِفاظًا عليه.
في المُقابل، من المتوقع أن تؤول إدارة الملكيات العقارية الأخرى إلى "اتحادات شاغلي العقارات المبنية"، شأنها في ذلك باقي العقارات الفردية ومشروعات التنمية العقارية ذات المباني المُتعددة؛ المنصوص عليه في القانون رقم 119 لسنة 2008 بشأن إصدار قانون البناء (اتحاد الشاغلين)، في الفصل الأول من الباب الرابع للقانون، المُعنوَّن بـ "الحفاظ على الثروة العقارية"، ولائحته التنفيذية، وتعديلاتهما.
ولكن، عندما نتأمل برهة واقعنا الراهن، سوف نجد كثير من العقارات/ التجمعات العقارية التي نحيا فيها تئن من تراجع بهجتها وانخفاض مستوى فعالية اتحاد شالغيها. أيضًا، قلما نجد علاقة متناغمة بين القائمين على الاتحاد وجميع أعضائه، في ظل مشكلات بينهما لا تزال تبحث عن حل منذ فترات طويلة نسبيًّا.
فهل يُمكن تأصيل منظومة تشريعية ومؤسسية الأكثر تطورًا؟
أحسب أننا بحاجة إلى استحداث منظومة متكاملة لضمان استدامة الوحدات العقارية وسلامتها، بداية من تطوير قواعد ومعايير البناء، والتحول من آلية "اتحاد شاغلي العقارات المبنية" إلى نموذج حديث يمزج بين شركات الملكية العقارية المُشتركة، وتعيين جهة مستقلة تُشرف عليها، تضم آلية تسوية النزاعات ذات الصلة بين أطرافها، وأن يمتد نطاق تفعيلها إلى جميع المجتمعات العمرانية.