صاحب مدرسة الرأى فى الفقة "جزء 2"
كتب-محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثانى مع صاحب مدرسة الرأى فى الفقة، فقد طلب أبو حنيفة العلم صغيرا، ولازم دروس العلم منذ نعومة أظافره، حتى لقبوه بأبي حنيفة، لملازمته للمحبرة المسماة حنيفة بلغة العراق، وجلس لعلماء الزمان وأعلامهم وسمع من كبار التابعين وأئمتهم، ولم يكن يأنف أن يروي أو يطلب العلم من أحد حتى ولو كان أصغر منه، فلقد روى عن شيبان النحوي وهو أصغر منه، وعن مالك بن أنس وهو كذلك أصغر منه، وهكذا شأن كل من طلب المعالي وسلك سبيل الربانيين، ومن ورعه لم يجلس للدرس والإفتاء إلا وهو في الأربعين من عمره، ففاق أهل زمانه جميعا، وصار علما مقدما في الفقه، وقد أرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه.
وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع، بلغ القمة السامقة في الفقه، وصار فقهه مضربا للأمثال، وأثنى عليه علماء الإسلام، فقال عنه الشافعي رحمه الله "الناس عيال على فقه أبي حنيفة " وقال ابن المبارك "أبو حنيفة أفقه الناس" وقال مالك للشافعي "رأيت رجلا يعني أبا حنيفة لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته" وقد سئل يزيد بن هارون "أيهما أفقه، الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث، وما رأيت أحدا أعلم من أبي حنيفة" وأما عن أخلاقه وورعه وعبادته، كان الإمام أبو حنيفة النعمان من رجالات الكمال في العلم والعمل، موصوفا بالفضائل، عالما عاملا، جمع بين العلم والعبادة، حليما وقورا هيوبا، معرضا عما لا يعنيه.
شديد الورع والتحرز عن مواطن الشبهات، مجافيا لأبواب السلاطين، يفر منهم قدر استطاعته، قال عن ورعه ابن المبارك "قدمت الكوفة فسألت عن أورع أهلها فقالوا أبو حنيفة" وقال مكي بن إبراهيم "جالست الكوفيين، فما رأيت أورع من أبي حنيفة، كان يبيع ثياب الخز، فإذا كان بأحدها عيب بيّنه للمشتري وأظهره، وكان إذا نسي أن يبين تصدق بثمن الثوب كله" ولعل ورعه هذا الذي أورثه محنته الشديدة مع الخليفة أبي جعفر المنصور، وعلى الرغم من انشغال أبي حنيفة في العلم ودروسه، إلا أنه كان من أعبد الناس في زمانه، يطيل صلاته جدا مع الخشوع والسكينة حتى لقب بالوتد، لطول صلاته، وكان ممن قرأ القرآن كله في ركعة واحدة.
وكان يحيى الليل كله تضرعا وصلاة ودعاء، وقد تواتر هذا الأمر عند أهل زمانه، فعن بشر بن الوليد، عن القاضي أبي يوسف، قال "بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلا يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان بعدها يحيى الليل كله صلاة وتضرعا ودعاء" ومسألة صلاته الصبح بوضوء العشاء تواترت عنه عند أهل زمانه، كما كان أبو حنيفة مشهورا بالعفو عمن ظلمه والصفح عمن أساء إليه، وتعرض لكثير من الانتقادات، بسبب توسعه في العمل بالقياس والرأي، وافترى عليه الحساد والحاقدون واتهموه بكثير من الاتهامات والافتراءات في دينه وعقيدته وهو منها براء، سعوا فيه عند السلطان.
وهو صابر محتسب لا يتزحزح عن مبدأه في رفض المناصب، أوذي في الله فصبر، ضيّق عليه في رزقه فشكر، ومع ذلك كان كافا لسانه عن النيل من معارضيه، معرضا عن زلات الآخرين، لا يجاري أحدا فيما لا ينفع ولا يغني، وقد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار، حتى قال ابن المبارك "ما رأيت أبا حنيفة ذكر عدوا له بسوء قط" فإن ضياع الدنيا بضياع حكامها، وضياع الحكام بضياع العلماء، فعندما غاب العلماء الربانيون عن ساحة الأحداث، وتصدر طلاب الدنيا والباحثون عن زينتها، عندها ضاعت الدنيا والدين، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم " من تعلم علما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا ، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"