recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إعلان

المشهد التونسي

 

المشهد التونسي

 أ. د. نيفين مسعد

 أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة 

لو كان لي أن أختار عنوانًا لهذا المقال أقل أكاديمية من عنوان "المشهد التونسي" لفضّلت اختيار عنوان "الصحن التونسي"، فهذا الأخير هو الوصف الذي أطلقه الرئيس "قيس سعيد" على دستور تونس فور الاستفتاء عليه قبل توليه الرئاسة، وكان مبرره في ذلك أن النظام السياسي الذي جاء به الدستور هو نظام يصعب تصنيفه لأنه على حد تعبيره "يأخذ من كل شيء بطَرَف".  ولاحقًا صار هذا النظام الهجين أحد أهم المعضلات التي تواجهها الدولة التونسية، واحتاج الأمر مرور عقد كامل حتى تتم إعادة طهي "صحن تونسي جديد". وسوف تناقش هذه الورقة أبعاد المشهد التونسي من خلال عدة نقاط أساسية، هي: التفاعلات الداخلية بين يوليو وسبتمبر ٢٠٢١، وأزمة حركة النهضة في مرآة التطورات التونسية، وأخيرًا آفاق المستقبل.

أولًا: التفاعلات الداخلية بين يوليو وسبتمبر ٢٠٢١

1. استند الرئيس قيس سعيد لنص الفصل ٨٠ من الدستور التونسي، الذي يعطي رئيس الجمهورية الحق عند وجود خطر داهم يهدد كيان الوطن أو أمن البلاد واستقلالها "يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة"، في أن يتخذ التدابير التي تُحتِّمها تلك الحالة الاستثنائية بعد استشارة رئيسّي الحكومة والبرلمان، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، وإعلان التدابير في بيان للشعب. بحيث تهدف هذه التدابير إلى "تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال"، ولا يجوز خلال تلك الفترة حل البرلمان، ولا تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبناءً على هذا النص قرر الرئيس "قيس سعيد" تجميد عمل مجلس نواب الشعب، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإقالة حكومة "هشام المشيشي"، وتشكيل حكومة جديدة من اختياره، وتوليه بنفسه مسؤولية النيابة العمومية.

وبالنظر للنص المذكور فإن المدقق فيه يستطيع أن يجد سندًا قانونيًا لكل من يؤيدون قرارات ٢٥يوليو ومن يعارضونها، فالذين يؤيدونها يستطيعون القول بحق إن "دواليب الدولة" كانت معطّلة، وكان يَلزَم اتخاذ تدابير لإعادتها لسيرها العادي. فمَن كان يتابع جلسات مجلس نواب الشعب سيجد أنه صار ساحة لتصفية الحسابات بين الأحزاب السياسية، وأن الأمر تطور عدة مرات لمستوى التشابك بالأيدي بين الأعضاء، وأنه شهد محاولتين لسحب الثقة من رئيس المجلس، ولم يفصل المحاولتين عن تحقيق هدفهما إلا عدد محدود من الأصوات، هذا إلى جانب الاعتصام المطوَّل الذي جرى داخله. من جهة أخرى فإن الصيغة التي حددها الدستور لتشكيل المحكمة الدستورية (من ١٢ عضوًا، بواقع ٤ أعضاء يعينهم كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء) تفترض حالة من التعاون بين السلطات الثلاث، وهو ما لم يكن متحققًا بين رأسيّ السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما أدى إلى تعثُّر تشكيل المحكمة الدستورية. وبالمثل فإن غياب التوافق بين مكونيّ السلطة التنفيذية أي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، قد أدى إلى تعذُّر اكتمال التشكيل الحكومي، هذا في الوقت الذي يحدد فيه الدستور العديد من المجالات التي تحتاج إلى التشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه من أول ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، وحتى التعيينات في بعض الوظائف والإعفاءات منها. باختصار فإنه عشيّة يوم 25 يوليو كان هناك غياب للمحكمة الدستورية، وتعطُّل للبرلمان، وحكومة تمارس الحد الأدنى من وظائفها فيما يُفتَرَض أن تعمل بأقصى طاقتها لمواجهة آثار جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية، ومثل هذا الوضع كان لا يمكن له أن يستمر. أما الذين يعارضون قرارات ٢٥يوليو فإنهم يستطيعون القول بحق أيضًا إن الشروط الإجرائية الواردة في الفصل ٨٠ لم تتم مراعاتها لإعمال نصّه، كاستمرار مجلس النواب في حالة انعقاد دائم، ومواصلة الحكومة عملها، ومشاورة رئيسيّ البرلمان والحكومة، وإخطار رئيس المحكمة الدستورية التي لا توجد أصلًا، وهذا في حد ذاته معناه أنه من البداية كان من المستحيل تطبيق النص بحرفيته في ظل القاعدة القانونية الشائعة "لا تكليف بمستحيل".

وبناءً عليه وكما اختلف الفقهاء الدستوريون في تكييف قرارات ٢٥ يوليو ٢٠٢١ من زاوية المشروعية القانونية، اختلفت أيضًا مواقف القوى السياسية منها، بحيث يمكن تصنيف هذه المواقف في فئات ثلاث: فئة تعارض تلك القرارات جملةً وتفصيلًا (حركة النهضة وحليفها حزب الكرامة ذو التوجه السلفي)، وفئة تؤيد تلك القرارات تأييدًا تامًا (حركة الشعب والحزب الدستوري الحر)، وفئة تعارض القرارات لكنها تدين أيضًا كل من شاركوا في السلطة منذ عام ٢٠١١، خصوصًا حركة النهضة (حزب العمال ومشروع تونس والحزب الجمهوري والتيار الديمقراطي). 

وكما هو واضح فإن الأحزاب كانت تصطف بالأساس في الفئة الثالثة مع أنها كانت شريكة كاملة الشراكة في صنع الأزمة السياسية الممتدة على مدار عقد من الزمان، ووجدنا بعض الأحزاب خوفًا من أن تتجاوزها الأحداث تنتقل من الموقف لنقيضه، كحزب قلب تونس مثلًا الذي أيّد القرارات في البداية ثم عاد ليعارضها. كذلك تفاوتت مواقف نواب البرلمان الحزبيين منهم وغير الحزبيين، فمنهم من دعا لعودة جزئية للبرلمان للتصويت على الأمور الأساسية كالميزانية والاتفاقيات المالية، ومنهم من دعا لحل البرلمان وطالب بانتخابات مبكّرة، ومنهم من رفض تجميد عمل البرلمان وقام بالتقاط صورة أمام بوابات المجلس المغلقة في حضور مكثّف لوسائل الإعلام. 

أما الاتحاد العام التونسي للشغل أحد الأركان الأساسية للنظم التونسية المتعاقبة، والطرف الرئيس في تفاعلاتها وفي حلحلة أزماتها، فقد فضّل التريث في البداية عندما فوجئ بالقرارات، وعندما خرج عن صمته فإنه اتخذ موقفًا وسطًا يُقدِّر فيه الأسباب التي أدّت بالرئيس لاتخاذ قراراته من جهة، ويدعوه من جهة أخرى إلى سرعة إنهاء التدابير الاستثنائية، والالتزام بالشرعية الدستورية، ومراجعة التدابير الخاصة بالقضاء حرصًا على استقلاله. ثم مع تجاوز المدة الدستورية المخصصة للتدابير الاستثنائية طرح الاتحاد خريطة طريق متكاملة. هذه الخريطة تدعو إلى تشكيل حكومة مصغّرة، وتطالب بتشكيل هيئة استشارية وطنية تضع تصورًا لإصلاح الدستور ومن ثمَّ النظام السياسي، وتحدد خطوات التجهيز لانتخابات مبكرة رئاسية وتشريعية، كما توجد للخطة محاور مالية وقضائية ومعلوماتية وإعلامية تفصيلية، وهي معلنة على موقعه، لكن الاتحاد لم يتقدم بها رسميًا للرئيس.

2. في الأمر الرئاسي رقم (١١٧) الصادر في ٢٢ سبتمبر ٢٠٢١، والصادر عن الرئيس "قيس سعيد"، تكرر مصطلح السيادة للشعب أكثر من مرة، وهذا التكرار له سند دستوري، إذ ينص الدستور في الفصل الثالث منه على أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، لكن التكرار أيضًا له سند سياسي باعتبار أن الرئيس استمع لرغبة الشعب في الإصلاح، وقرر الاستجابة له. أما عناصر هذا الأمر الرئاسي فلقد توزّعت ما بين: الاستمرار في تعليق اختصاصات مجلس النواب ورفع الحصانة البرلمانية عن أعضائه، ونقل اختصاصات مجلس النواب المنصوص عليها في الفصل ٦٥ من الدستور لرئيس الجمهورية، مع إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وكذلك نقل اختصاصات رئيس الحكومة الواردة في الفصل (٩٢) من الدستور لرئيس الجمهورية، بحيث تقتصر صلاحيات الحكومة التي سيشكّلها الرئيس على تنفيذ السياسة العامة طبقًا لتوجيهاته، وأخيرًا نصَّ الأمر على تولِّي الرئيس إعداد مشروعات التعديلات الخاصة بالإصلاحات السياسية، مستعينًا في ذلك بلجنة من تشكيله هو، ثم بعد ذلك يتم عرض التعديلات على الاستفتاء الشعبي. والخلاصة أن الأمر الرئاسي ركّز السلطات التنفيذية والتشريعية بيد الرئيس، وحصّنه ضد الرقابة الدستورية، وحمّله مسؤولية إعداد مسودة التعديلات الدستورية، وتشكيل اللجنة التي تتولى صياغتها، وبالتالي فهناك اختلاف كبير بين ٢٥يوليو، و٢٢سبتمبر، فالتاريخ الأول تقيّد بمدى زمني والثاني لا، كما أن الثاني انتقل من تركيز السلطات بيد الرئيس إلى تكليف الرئيس بمهمة تعديل النظام السياسي.

اختلف رد الفعل الحزبي والشعبي ما بين يوليو وسبتمبر؛ لأن الأمر الرئاسي في ٢٢ سبتمبر كان مختلفًا إلى حد بعيد عن قرارات ٢٥ يوليو، فلقد انتقدت معظم الأحزاب السياسية الأمر الرئاسي من خلال بيانات منفصلة ومجمّعة، كما أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل بيانًا انتقد فيه خلو الأمر الرئاسي من تسقيف زمني للحالة الاستثنائية، وتجميع السلطات في يد الرئيس، وعدم إشراك جميع مكوّنات المجتمع في تعديل الدستور، وغياب المؤشرات لوضع حد للإفلات من العقاب في جرائم الإرهاب والفساد، فضلًا عن تأخر تشكيل الحكومة. لكن الاتحاد في الوقت نفسه كان حريصًا على أن يستهل بيانه بالتأكيد أنه ليس ضد التوجه العام لرئيس الجمهورية من أجل تصحيح مسار العشرية الممتدة من ٢٠١١ حتى ٢٠٢١، وكل ما في الأمر أنه "ضد" المقايضة بين الحرية واحتكار السلطة". أما على المستوى الشعبي فإن زخم التأييد الواسع لقرارات ٢٥ يوليو غاب عن الشارع التونسي بعد القرار الرئاسي رقم ١١٧، ومع أن المظاهرات المعارضة للرئيس "قيس سعيد" ما زالت محدودة العدد وقاصرة على العاصمة تونس وفي شارع الحبيب بورقيبة تحديدًا، لكن هذه المظاهرات أكبر عددًا من ذي قبل، علمًا بأن استطلاعات الرأي لقياس شعبية "قيس سعيد" تشير إلى أنها ما زالت مرتفعة، وإلى أنها تكاد تقترب من الثلثين، ما يعني أن الرئيس ما زال لديه خزّان معتبر من التأييد الشعبي.

ثانيًا: أزمة حركة النهضة في مرآة التطورات التونسية 

1. مثّلت قرارات ٢٥ يوليو هزّة عنيفة لحركة النهضة، ليس هذا فحسب من منظور وقْع المفاجأة عليها، ولا إبعادها عن المشهد السياسي عبر تجميد البرلمان الذي تتمتع فيه بالأغلبية، لكن كذلك من منظور علاقتها بالشارع، فلقد تنبّه الشيخ "راشد الغنوشي" إلى أنه لم يُحسن التعامل مع المؤشرات المختلفة التي تدل على تراجع شعبية الحركة في الشارع، من أول التناقص المستمر في عدد مقاعد النهضة داخل البرلمان، من انتخابات ٢٠١١ حتى ٢٠١٩، إلى انفجار المظاهرات الواسعة بعدة مدن تونسية في شهر يوليو ٢٠٢١ نفسه، مطالبة بحل الحكومة والبرلمان معًا، وقيام المتظاهرين بمهاجمة مقرات حزب النهضة. وبالتالي فإن ما لم يستمع إليه الشيخ قبل ٢٥ يوليو كان لابد له أن يسمعه بعد هذا التاريخ، وبالفعل خرج "راشد الغنوشي" ليقول وصلتنا الرسالة، يقصد رسالة الشارع التونسي، فماذا فعل زعيم الحركة بعد أن استمع إلى الرسالة؟ اتخذ عدة خطوات، أولاها: إلغاء الدعوة لتحشيد الشارع ضد قرارات ٢٥ يوليو كما كان قد أعلن، وهذه الخطوة التي تتميز في ظاهرها بالعقلانية كانت تخفي وراءها الخشية من ألاّ تلقى الدعوة استجابة واسعة، وكانت هذه الخشية حقيقية لأنه حتى بعد الأمر الرئاسي رقم (١١٧) وعودة الشيخ لمطالبة التونسيين برفض ما أسماه "الانقلاب على الدستور" فما زالت قدرة الحركة على التحشيد محدودة، والدليل هو حجم الأعداد المشاركة في مظاهرات ٢٦ سبتمبر في العاصمة التونسية. الخطوة الثانية: هي اعتراف الشيخ "راشد" بأن الحركة تتحمّل جزءًا من المسؤولية عن الأخطاء التي حدثت خلال الفترة الماضية، وفي الحقيقة فإنه لم يكن يستطيع التنصُّل من المسؤولية لسبب بسيط هو أن النهضة كانت شريكًا في الحكم منذ عام ٢٠١١، بل إنها ظلّت تدير الحكومة حتى نهاية عام ٢٠١٣، في ظل نظام تتمتع فيه الحكومة بصلاحيات كبيرة. 

هذه الخطوات كافة لم تُحدث الأثر المطلوب لا داخل الحركة ولا خارجها، لأنه بدا معها وكأن الشيخ يتعامل مع الأزمة باعتبارها من مسؤولية حركة النهضة كتنظيم وليس باعتبارها مسؤوليته هو شخصيًا كزعيم ممسك بزمام الأمور، ولا يشاور باقي قيادات الحركة. وكان أقوى رد فعل على "الغنوشي" هو استقالة ١٣١ عضوًا من الحركة في ٢٥ سبتمبر وذلك فقط حتى تاريخ الانتهاء من هذه الورقة، فمع أن النهضة عانت من ظاهرة الانشقاقات على مدار تاريخها، فإن الاستقالات الأخيرة كانت مختلفة نوعيًا وعدديًا؛ بالنظر إلى كم قيادات الصف الأول والثاني الذين تقدموا باستقالاتهم. 

2. يقودنا ذلك للنقطة الثانية المتعلقة بانعكاس الـتطورات السابقة جميعًا على تماسك الحركة وعلى موقعها على الساحة السياسية التونسية. فيما يخص مدى تأثر تماسك الحركة بالتطورات فإن هــذا يتوقّـــف على ما إذا كانت موجــــة الاستقالات تمثِّل بداية لهروب جماعي أكبر بما يؤدي إلى تفكيك الحركة وتشكيل حركات أخرى منبثقة عنها كما يحدث عادة مع التنظيمات السياسية، ومنها تنظيمات الإسلام السياسي، أم أنها تمثِّل تخلصًا من الأصوات المعارضة داخل الحركة بما يحقق لها درجة أعلى من التماسك، ويعزّز قبضة "الغنوشي" على قراراتها بشكل أكبر، وكلا الاحتمالين غير مستبعد. 

أما عن موقع الحركة على الساحة السياسية التونسية، فمن الواضح أنه حتى أكثر المعارضين شراسة لكل تطورات ما بعد ٢٥يوليو غير راضٍ عن شكل النظام السياسي التونسي القائم، ولا عن الشراكة غير الناجحة بين مكونيّ السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة كما اتضح من كل التجارب السابقة، وبناءً عليه فهناك قبول واسع لفكرة التحوُّل للنظام الرئاسي في شكله المعروف، وليس كما انحرف به الرئيس "زين العابدين بن علي". مثل هذا التغيير المرغوب في شكل النظام السياسي سيعني تعزيز موقع رئيس الجمهورية، والحدّ من صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما يمكن ترجمته إلى إضعاف موقع النهضة، لماذا؟ أولًا، لأنه من المستبعد جدًا أن يصل أحد المنتمين للنهضة إلى رئاسة الدولة، ويكون هو رمانة ميزان النظام، فهذا ضد المزاج الشعبي التونسي كتوجه عام، وثانيًا، لأن ميزة النهضة مقارنة بسواها من الأحزاب السياسية هي قدرتها على حشد أنصارها للتصويت انطلاقًا من مبررات عقائدية، وهذه القدرة على الحشد قد تأثّرت كما سبق القول، زد على ذلك أن حركة النهضة لو حشدت قواعدها الانتخابية بشكل واسع ونال حزبها الأغلبية في الانتخابات البرلمانية فلن يكون هناك ما يُلزِم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الحكومة من حزب الأغلبية.

أما السيناريو الأسوأ بالنسبة للنهضة فهو ما يذكره البعض عن احتمال قيام الرئيس "قيس سعيد" بحل الحركة، وهذا احتمال مستبعد، لكنه ليس مستحيلًا، وهو مستبعد لأنه ربما يؤدي للتعاطف مع حركة النهضة، أو لأنه قد يؤدي لتفجّر موجة من أعمال عنف انتقامًا من حل الحركة. وبعبارة أخرى فإنه قد يعطيها قبلة حياة. تبقى الإشارة إلى أن ذلك كله يجري في مناخ إقليمي يشهد انحسارًا واضحًا لدور حركات الإسلام السياسي، بدءًا من مصر، مرورًا بليبيا (انتخابات ٢٠١٤)، فالسودان ومن بعده تونس. أما آخر مظاهره فما حدث في الانتخابات التشريعية المغربية مع انهيار شعبية حزب العدالة والتنمية من ١٢٥ مقعدًا إلى ١٢مقعدًا فقط، والنهضة ليست بعيدة عن هذا الاحتمال عند إجراء انتخابات تشريعية مبكّرة. 

ثالثًا: آفاق المستقبل

1. إذا أردنا استخلاص مجموعة من النتائج من جملة التطورات التي شهدتها تونس على امتداد الفترة من يوليو إلى سبتمبر ٢٠٢١، نستطيع أن نذكر ما يلي:

هناك استياء عام من أداء النظام السياسي قبل ٢٥ يوليو، ورغبة ملحَّة في تغييره. 

أن التأييد الشعبي لقرارات ٢٥يوليو كان واسعًا جدًا، وقد تراجع هذا التأييد نسبيًا مع صدور الأمر الرئاسي رقم ١١٧، لكن "قيس سعيد" ما زال يحظى بشعبية كبيرة.

الاتحاد العام التونسي للشغل أحد أهم أركان المعادلة السياسية في تونس، وهو يطالب بشراكة بين الرئيس والمجتمع بقواه السياسية والمدنية المختلفة في إنجاز تغيير النظام السياسي من خلال تعديل الدستور.

أن حركة النهضة خسرت داخليًا وخارجيًا، وهي خسارة مفتوحة على احتمالات كثيرة، خاصةً أن البيئة الإقليمية لم تعد ترحب بحكم جماعات الإسلام السياسي.

أن إطالة الفترة الاستثنائية لا تخدم مشروع التغيير بل ستؤدي إلى زيادة الانتقادات الموجهة لعدم الدستورية، كما ستفتح الباب لتدخلات خارجية، وربما لضغوط من أجل إعادة ترتيب المشهد السياسي، بما يساعد النهضة على إعادة التموضع، ويعد بيان دول مجموعة السبع الذي ألحَّ على العودة للدستور مجرد مؤشر.

2. إذا انتقلنا لمحاولة استشراف آفاق المستقبل يمكننا القول إن هذا المستقبل سيتوقف على كيفية تعاطي الرئيس مع عملية تعديل الدستور، التي تمثِّل مطلبًا لقطاع واسع من المواطنين التونسيين.  لقد تضمّن الأمر الرئاسي رقم (١١٧) النص على أن رئيس الجمهورية يشكّل لجنة لوضع تصور لكيفية تعديل الدستور. ويُعد تشكيل لجنة بواسطة رئيس الجمهورية لوضع الدستور وتعديله أسلوبًا معروفًا وشائعًا في عدة تجارب دولية. ومع ذلك يمكن القول إنه كان من الأفضل لو أن الرئيس طلب من القوى المجتمعية الرئيسة ترشيح من يمثِّلها لعضوية اللجنة، لكن أما وأن هذا لم يحدث فإنه يمكن تدارُك الأمر بتوسيع نطاق المشاورات بين أعضاء اللجنة والقوى المجتمعية للتعرف على مرئياتها والتفاعل معها وإدماجها في صلب التعديل، وقد نبّه الاتحاد التونسي العام للشغل لتلك النقطة بالتحديد، أي إشراك المجتمع في صنع التعديل الدستوري.

ختامًا، لقد سبق القول إن الرئيس "قيس سعيد" يحظى بشعبية كبيرة، وهذه الشعبية تؤهله عند إجراء الانتخابات الرئاسية المبكّرة كي يجدّد انتخابه مرة ثانية، فمزاجه الثوري له مقبولية عند الشباب، لكن الرئيس يحتاج أن يعمل في بيئة طبيعية تتميز بالاستقرار، لا بيئة مضطربة تستدرجه لمعارك جانبية مع قوى تتهمه بتهميشها. هذا الاستقرار سوف يسمح له بالالتفات للمشكلة الاقتصادية التي تمثِّل التحدي الحقيقي لتونس، خصوصًا في ظل أزمة كورونا. وهكذا ستظل عيوننا على تونس وقلوبنا معها، وكلنا ثقة في أنها تمتلك من الرغبة والقدرة ما يؤهلها لتجاوز ميراث العشرية السابقة.

google-playkhamsatmostaqltradent