عام على البريكست.. الآفاق والتداعيات
في الذكرى السنوية الأولى لخروج بريطانيا رسميًّا من الاتحاد الأوروبي "البريكست"، في 1 يناير 2021، والذي أنهى حقبة تصل إلى 45 عامًا من انضمام لندن إلى السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي، تتفاوت الرؤى بشأن تداعيات البريكست على الداخل البريطاني، وآفاق العلاقات الأوروبية- البريطانية، وسُبل حل أزمة أيرلندا الشمالية التي ما زالت عالقة بين الطرفين.
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من استطلاعات الرأي البريطانية في الآونة الأخيرة، أظهرت استياء الناخبين البريطانيين من تداعيات البريكست؛ حيث أكَّد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "سافانتا كومريس" البريطانية (Savanta ComRes) في نوفمبر 2021، أن 53% من البالغين في المملكة المتحدة سيصوتون لإعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
كوفيد أم بريكست.. مآلات الأزمة الاقتصادية البريطانية
تتشابك التداعيات الاقتصادية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع تلك الناجمة عن تفشي جائحة كورونا، وأكَّدت الحكومة البريطانية أن الأزمة الاقتصادية البريطانية هي جزء لا يتجرأ من الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم جراء تفشي الجائحة، فيما يرى المحللون أن تلك الأزمة تُعزى بصورة أساسية إلى البريكست، نظرًا لأن تراجع التجارة البريطانية مع أوروبا لم ينعكس في تجارة لندن مع بقية دول العالم، كما أكَّد مكتب مسؤولية الميزانية (Office for Budget Responsibility) التابع لوزارة الخزانة البريطانية أن الناتج المحلي الإجمالي البريطاني انخفض بنحو 4% جراء البريكست، مقارنة بانخفاض مقداره 1.5% بسبب الجائحة.
ومن جهته، أكَّد "مركز أبحاث المملكة المتحدة في أوروبا المتغيرة" في لندن (UK Research Center on a Changing Europe) أن "البريكست ترك ندبة دائمة على الاقتصاد البريطاني"، وألحق أضرارًا بالغة بالاستثمار والتجارة تبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما ترجِّح التقديرات الصادرة عن مركز الأداء الاقتصادي التابع لكلية لندن للاقتصاد أن الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي البريطاني سيتراوح بين 5.8 إلى 7% على المدى المتوسط، ويعاني الاقتصاد البريطاني في الوقت الراهن نقصًا حادًا في العمالة الأوروبية التي تعتمد عليها الشركات البريطانية، بالإضافة إلى اضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع معدلات التضخم، وركود حركة التجارة.
وفي هذا الإطار، بلغ معدل التضخم في المملكة المتحدة أعلى مستوياته منذ 10 سنوات؛ حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 5.1٪، في نوفمبر 2021، ويتوقَّع بنك إنجلترا المركزي أن يصل معدل التضخم إلى 5٪ في ربيع عام 2022، قبل أن يتراجع نحو هدفه البالغ 2٪ في أواخر عام 2023، فيما يرجِّح المراقبون أن يتجاوز متوسط معدل التضخم 6% في منتصف العام الجاري 2022.
وفي ضوء ذلك، رفع بنك إنجلترا المركزي أسعار الفائدة من مستوى منخفض قياسي بلغ 0.15٪ إلى 0.25٪ لكبح جماح التضخم، ليُعد بذلك أول بنك مركزي رئيس بين الاقتصادات الرائدة في العالم يرفع أسعار الفائدة منذ بداية الجائحة، وفي هذا الصدد، يتوقَّع خبراء الاقتصاد زيادة حالات الإفلاس بمقدار ثلاثة أضعاف في جميع أنحاء المملكة المتحدة خلال عام 2022، ومن المرجَّح زيادة تلك المعدلات حال ارتفاع أسعار الفائدة إلى 0.5% بحلول ديسمبر المقبل.
وبالنسبة للتجارة، فقد شهدت التجارة البريطانية مع الاتحاد الأوروبي تراجعًا ملحوظًا منذ البريكست؛ حيث أكَّد مركز الإصلاح الأوروبي (Centre for European Reform) أنها انخفضت بنسبة 15.7% مقارنة بالمعدلات المتوقَّعة لو ظلت بريطانيا ضمن السوق الموحدة والاتحاد الجمركي لبروكسل، بما يتوافق مع تقديرات الحكومة البريطانية لعام 2018، والتي توقَّعت انخفاضًا بنسبة 10% في التجارة.
ويتوقَّع خبراء الاقتصاد أن تطبيق بعض الضوابط الجمركية الجديدة على الواردات اعتبارًا من يناير الجاري، سيؤدي بدوره إلى مزيد من التراجع في التجارة البينية للندن وبروكسل، كما أنه من المرجَّح أن تخضع المنتجات الغذائية من الاتحاد الأوروبي لعمليات تفتيش إضافية ووثائق بيروقراطية اعتبارًا من يوليو المقبل، ومن المُستبعد عودة مبيعات المنتجات البريطانية في الخارج إلى مستويات عام 2018، حتى عام 2024.
ورغم الصعوبات المُحدقة بفك التشابك بين التداعيات الاقتصادية للجائحة وتلك التي تمخضت عن البريكست، يرجِّح الاقتصاديون أن التداعيات الاقتصادية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستكون طويلة المدى، وأشد وطأة من تلك المتعلقة بالجائحة.
بريطانيا الأكثر جاذبية للاجئين بموجب البريكست
تمثِّل أزمة اللاجئين معضلة جديدة للمملكة المتحدة، فرغم أن أبرز أهداف البريكست تمحورت حول استعادة لندن للسيطرة على حدودها، ولكن من المفارقة أن البريكست جعل بريطانيا الأكثر جاذبية لدى اللاجئين؛ حيث أكَّد للاجئين العالقين في شمال فرنسا في نوفمبر الماضي، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعلها الأكثر جدارة بالمخاطرة؛ نظرًا لأنه لم يعد من الممكن إعادتهم إلى الدول الأوروبية الأخرى بموجب لائحة "اتفاقية دبلن" الخاصة بالاتحاد الأوروبي، والتي تنص على أنه يتعيَّن على طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي طلب اللجوء في أول دولة يدخلونها، وإعادة طالبي اللجوء إلى الدولة العضو في الكتلة التي ثبت دخول اللاجئين إليها أولًا، وذلك على النقيض من قواعد القانون الدولي الذي ينص على أنه يحق للأشخاص طلب اللجوء لأي بلد يصلون إليه، ولا يتعيَّن عليهم طلب اللجوء في أول بلد آمن تطأه أقدامهم، والذي أصبحت تمتثل بريطانيا له في أعقاب البريكست.
أيرلندا الشمالية.. الأزمة العالقة في أعقاب البريكست
رغم مرور عام على توقيع اتفاقية التجارة والتعاون بين لندن وبروكسل، وفي أعقاب عامين من التفاوض بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي ينظم العلاقات التجارية بين إنجلترا واسكتلندا وويلز من جهة، وبين أيرلندا الشمالية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، لا يزال الجانبان عالقين في نزاع بشأن الترتيبات التجارية في أيرلندا الشمالية، ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان الطرفان سيتوصلان إلى تسوية مرضية.
وفي هذا الإطار، تتفاقم المخاوف المحدقة باستمرار تعثُّر المفاوضات؛ نظرًا لأن الطرفين بإمكانهما استخدام المادة 16 من البروتوكول، وهي بند طارئ يسمح لأي من الجانبين تعليق بعض أجزاء الصفقة في حال اعتقادهم أن ترتيباتها غير مُجدية، ومن المرجَّح أن يفضي هذا الأمر إلى فرض تعريفات جمركية، مما يقوِّض بدوره الشروط المحدودة نسبيًا للترتيبات التجارية الحالية.
هذا، وقد أكَّد بعض الخبراء الاقتصاديين في أيرلندا الشمالية، أن العديد من العقبات الناشئة عن الترتيبات التجارية الجديدة قد تبددت الآن، ورغم أن بعض الشركات ما زالت تعاني وطأة القواعد الجديدة، فقد حقق البعض الآخر ازدهارًا واضحًا، وزادت الصادرات إلى أيرلندا بنسبة 63٪ خلال عام 2020.
ويحذِّر المراقبون من استخدام المفاوضات الخاصة بالترتيبات التجارية بين أيرلندا الشمالية وبريطانيا كورقة سياسية مع قرب انتخابات مجلس العموم في أيرلندا الشمالية، في مايو المقبل؛ حيث أفادت بعض التقارير أن الحزب الاتحادي الديمقراطي يخطط للضغط على وزيرة الخارجية المسؤولة الآن عن المفاوضات "ليز تروس"؛ لتعليق جزء من البروتوكول، وهذا الأمر قد ينطوي على رد فعل غير متوقَّع من بروكسل؛ لا سيَّما وأن لندن خففت مطالبها قبل استقالة "فروست".
وأعرب المراقبون عن مخاوفهم من عدم تمكن لندن وبروكسل من تسوية خلافاتهما بشأن أزمة أيرلندا الشمالية، الأمر الذي يلقي بتداعياته على تقويض اتفاق سلام "الجمعة البيضاء" لعام 1998، والذي أنهى عقودًا من الصراع الطائفي في أيرلندا الشمالية، مما يُنذر بتداعيات بالغة الخطورة على الأمن الأوروبي.
آفاق العلاقات بين لندن وبروكسل
رغم أنه كان من المتوقَّع أن تمثِّل اتفاقية التعاون والتجارة الحرة التي تمّ توقيعها بين لندن وبروكسل بداية حقبة جديدة في العلاقات الثنائية بين الطرفين، فإن الصفقة لم تعدو كونها مجرد محاولة لتجنب السيناريو الأسوأ المتعلق بعدم التوصل لصفقة نهائيًا؛ حيث إن جوهر الصفقة كان ضعيفًا، ولم تتجاوز بنود صفقات التجارة الحرة العادية بين الدول، علاوةً على ذلك لم يتطرق الطرفان لجُملة من المجالات المحورية في علاقاتهما الثنائية؛ حيث لم تتضمن الاتفاقية أية آليات للتنسيق الرسمي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن السياسة الخارجية والأمنية، الأمر الذي أفضى بدوره إلى هشاشة التعاون بين الطرفين.
هذا، وقد شهد عام 2021، تراجعًا ملحوظًا في العلاقات بين لندن وبروكسل، ومن المرجَّح استمرار الأوضاع كما هي عليه خلال عام 2022، لا سيَّما وأن فرنسا ستتولَّى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، ومن المقرر أن يخوض الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" حملته الانتخابية ضد تيار الوسط واليمين المتطرف، والذي يُعد "بوريس جونسون" زعيم حزب المحافظين البريطاني، أبرز زعماءه في أوروبا.
وتجدر الإشارة إلى إحجام المملكة المتحدة عن إدراج التعاون الخارجي والأمني في اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يُعزي بصورة رئيسة إلى رغبتها في التركيز على تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الأوروبية، لا سيَّما فرنسا، في ضوء العلاقات الوثيقة التي تربط البلدين بموجب معاهدة "لانكستر هاوس" لعام 2010 (Lancaster House treaties)، هذا فضلًا عن المساعي الحثيثة للحكومة البريطانية خلال الأشهر الماضية لعقد قمة بين "جونسون" و"ماكرون" للبناء على الاتفاقيات السابقة بين البلدين، لكن الإليزيه عرقل تلك المساعي بسبب النهج البريطاني تجاه معاهداتها الخاصة بالاتحاد الأوروبي، والتحديات الخاصة بالهجرة غير المشروعة، بما يؤكِّد أبنه من المُستبعد توطيد العلاقات الثنائية مع باريس أو الدول الرائدة في الكتلة بعيدًا عن فلك الاتحاد الأوروبي، أو بمعزل عن بروكسل.
ورغم أنه من الصعب استشراف مستقبل العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن الدلائل الراهنة تُشير إلى أن تخفيف اللهجة البريطانية بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية تبرهن على أن لندن لم تجنِ فوائد البريكست حتى الآن، وحتى في حال نجاح الطرفين في حل الخلافات المتعلقة ببروتوكول أيرلندا الشمالية، تشير التقديرات إلى أن الهدنة الحذرة في هذا الصدد ستظل السيناريو الأكثر ترجِّيحًا.
وختامًا، يرجِّح المراقبون أن اتفاقية التجارة والتعاون المبرمة في العام الماضي ستظل الركيزة الأساسية للعلاقات الثنائية بين لندن وبروكسل طالما ظل المحافظون في السلطة، مع ضآلة الاحتمالات المتعلقة بتجاوز شروطها المحدودة، ورغم أن البريكست لا يُعد ورقة رابحة لـ"جونسون"، لا سيَّما وأن التقديرات تؤكِّد أن عواقبه على الصعيدين المحلي والدولي ستؤرقه على المدى القريب، فإنه تعهَّد بمضاعفة فوائد وفرص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال عام 2022.