«الألم والحب» وتداعيات الطنين فى رواية «طنين»
للدكتور عزوز إسماعيل «1»
بقلم د. سعدية العادلي
لولا الألم ما تحركت المشاعر، فالحياة مبنية على الخير والشر، اللذة والألم، الفضيلة
والرذيلة، السعادة والشقاء.
وكثير من الأدب وليد الألم. فلولا ألم أبي العلاء المعري من الفقر تارة ومن العمى
تارة أخرى ما نظم شعرًا يخلد اسمه، ويتردد على الساحات الأدبية حتى الآن،
وكما قال فيلسوف الشعراء.
نشكو الزمان، وما أتي بجناية ولو استطاع تكلما لشكانا، فالأدباء والشعراء
ينطقهم ألم الحب أحيانًا وألم الفقد أحيانا وألم الحنين أحيانا.
وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبلي الله بعض القوم بالنعم
أحدث الطنين فى أذنيّ الكاتب ألمًا رفعه لأوج المشاعر فأخذ مع كل نوبة من نوبات
الألم يستعيد الذكريات والأحداث والأوجاع متصفحًا كتاب عمره على جسر مؤلم
حزين، لولا أن الله كان ملجأه، والعلم غايته ومنقذه، فصادق الورق والقلم والكتاب
وصار علمًا للثقافة والأدب.
وطنين هي الرواية الأولى للدكتور عزوز علي إسماعيل، وهي صوت الألم الذي
فاجأه إثر تفكير عميق بحثًا عن حل لبعض المشاكل التي داهمته بعد عودته لأرض
الوطن «مصر» بقرار سريع غير مدروس نتيجة للأحداث التي تعرضت لها مصر
«محبوبته» فى الخامس والعشرين من يناير 2011، وكالعادة وكما حدث كثيرًا مع
العائدين من بلاد الغربة يملؤهم الحنين للوطن، وحميمية الأهل والأصدقاء وتكون
الصدمة أنه ما من أحد ينتظر عودتهم سوى النصابين والمحتالين، تعرض الكاتب
لعملية نصب أتت عليه والتهمت كل ما جناه بالغربة والسفر والسهر، والعناء، فلم
يجن سوى الطنين يصاحبه عبر رحلة الأيام بين الألم والأمل.
الجدير بالذكر أن للكاتب الدكتور عزوز إسماعيل أعمالاً خالدة، فهو صاحب
موسوعة «المعجم المفسر لعتبات النصوص» ذات المردود العلمي والثقافى، التي
ظهر تأثيرها واضحًا على المنصات النقدية داخل مصر وخارجها.
فهو يلبي الدعوات من جهات متعددة لإلقاء المحاضرات فى مختلف المناسبات وله
مبادرات عديدة، كمبادرة الحفاظ على اللغة العربية، يدعى دائما لمناقشة القضايا
الأدبية الكبرى من خلال استديوهات الإذاعة والتليفزيون، وسجل الكثير من
الحلقات لتأصيل الهوية، وقضية بناء الإنسان، ومن التراث والأدب الشعبي،
وسجلت له قناة النيل الثقافية العديد من الحلقات. وله قناة خاصة على «يوتيوب»
ينشر من خلالها الرؤى والثقافات الأدبية والنقدية لطلابه ومريديه وقد نال العديد من
الجوائز والتكريمات من جهات مختلفة، له مؤلفات عديدة فى موضوعات شتي منها.
كتاب الألم فى الرواية العربية.
كتاب عتبات النص.
كتاب الرواية الرسائلية والرسالة الروائية.
وله العديد من الدراسات النقدية والأدبية المتنوعة.
وفق الكاتب فى اختيار اسم روايته «طنين»، فالطنين يعد بطل الرواية، فأحيانًا
يكون شرسًا فى إطاحته برأس فريسته فيستدعي الكاتب آلام حياته على مر
السنين، يستدعي الطنين حادثًا مؤثرًا فى حياة الكاتب، موت أبيه يوم زفاف أخته،
ولأنه أصغر إخوته أجبره إخوته على البقاء مع العروس حتى توصيلها لبيت الزوجية
فى بلد آخر دون علمها بموت أبيها، وما زال الألم يعتصره كلما تذكر أنه لم يستطع
تشييع أبيه إلى مثواه الأخير.
ويعاوده الطنين ناخرًا فى أذنيه ورأسه عند تسجيله حلقة تليفزيونية حول الفنون
والآداب، وكيفية ربط الأدب بالفن، فكرة طرحها فى المجلس الأعلى للجامعات،
ونسبت لشخص آخر، زاد الألم، وأخذ الطنين يعلو ويعلو وقاده للحديث عن الوباء
المستشري كورونا وما فعله بالبلاد والعباد، وكيف ذهب للطبيب الذي نصحه بشراء
سماعة ووصف له المكان، وبالنظر للطبيب عندما هم بالانصراف، وجد فى إحدى
أذنيه سماعة.
يستوقفنا الكاتب حين يتساءل: ما قيمة الإنسان فى هذه الحياة دون إضافة شيء
أو أثر يحسب له عند الرحيل؟ ليؤكد أهمية السعي فى الحياة لإثبات الذات، وتحقيق
الآمال.
ويعاوده الطنين مستدعيا سنوات العمر الضائعة تسويفًا من أستاذه فى الجامعة
أضاع عليه الكثير من الوقت والجهد، ورحيله عبر عجلة الزمن والمكان منقبًا عمّا عن
إليه من أمور النقد، ومؤلفاته، ولشدة حبه وشغفه بهذه المعرفة فقد وصفها بأنها
«رحلة من العذاب السعيد»
يأخذه الطنين وما يصاحبه من صداع بسبب السماعة، فيستدعي هذه المرة طنين
دوران الساقية، وينسحب للحنين إلى الوالد ومقولته: «إذا أغمضت عينيك قد لا
تشعر بالدوران».
تساؤلات يطرحها الكاتب وهو يطوف بنا مرة براقص التنورة ومرة بالعصابة
«الغماية» التي توضع على عيني البقر فى الساقية، ثم يعود لوصايا الوالد
بالحفاظ على الأرض الأم الحنون التي تعطي بلا حساب، مع إعطاء نصيحة
يقدرها كل متحضر، وهي ثقافة الحفاظ على الوقت يقدمها الأب البسيط بفطرته
لابنه الطفل الصغير «تصحي بدري يصبح يومك كله نادي».
يستمر الكاتب مطوفًا بنا ليري الصورة المرسومة على جدران فناء المدرسة ملابس
الفراعنة التي تذكره بمئزر يوم عرفة، ليؤكد صلة العبادة برب الكون، فالعمل عبادة،
والتنسك عبادة مؤكدًا معرفة القدماء المصريين التوحيد على يد إخناتون «فحب
العمل هو عبادة» أسقط الكاتب ما فى نفسه من عشق للعلم والثقافة وما ينفقه من
وقت للاستعداد له، فإنه عبادة تربطه بالخالق وتقربه إليه، تناص مع الآية الكريمة
«وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون» وأول سورة فى القرآن الكريم
«اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم»، كما يذكرنا
بحبه لحصة التاريخ، فحب الكاتب للتاريخ أضمر فى نفسه الأصالة، حضارة
القدماء وفكرهم الذي ما زال يحيِّر العالم. ثم ينتقل فى عشق ثقافى مستعرضًا
كتاب الدكتور ميلاد حنا «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»، مؤكدًا أن
المصريين بداخلهم تلك الجينات السبعة فنان عظيم نسعد به ونفخر، رغم
الانعكاسات التي حدثت فى الأزمنة القريبة.
ويعاوده الطنين فيتمني أن يجد علاجًا عند أجدادنا القدماء، ثم يستمر فى جرعاته
الثقافية فيستحضر الفيلسوف الأمريكي «ويل ديورانت» فى موسوعته «قصة
الحضارة» استغرق فى كتابتها أربعين عامًا، شاركته فيها زوجته «أويل ديورانت»
ثم يجول فى عقول البشر أساس تلك الحضارات مقارنًا بما يحدث الآن فعلًا من
شأن التفاهات، وأصبحت الأجيال الصاعدة جل اهتمامها الشهرة والمال، وتقليد
الآخرين وفقد الرؤية وانتشار لغة الشات.
وسحر الحب الأول فى حياة الكاتب صورة رومانسية وصفها بأنها «طنين رأسه منذ
الطفولة حتى الآن».
يراوغنا القاص، وما أكثر مراوغاته الثقافية، وملاعباته، يدغدغ مشاعر القارئ،
واصفا «سمر» ويقول إنها زميلته فى الكلية، معددًا محاسنها متغزلًا فى جمالها،
فهي إذا ابتسمت فرحت من أجلها الدنيا، وإذا ثارت كانت لثورتها حكايات.
ثم يعاود ويقول إنها بمفردها طنين رأسه منذ الطفولة، وهو فى الجامعة لم يكن طفلًا
إذن من هي سمر؟؟
سمر هي حب الطفولة البريئة الذي تفشي حروف الحب الأولى فى قلب البطل،
فأصبح رمزًا يعول عليه مشاعر الفنان عندما يلتقي الحب الملهم، أما سمر الحقيقية
التي هي فى خاطره وفى دمه هي من أهدى إليها هذا الكتاب هي وحدها.. كما
جاء بالإهداء.
(هي ملهمتي، ناجيتها فى الأسحار كثيرًا، كتبت من أجلها شعرًا، قيل عنه إنه عذب
الكلمات، ورائق الإحساس، شجي، به آهات تنم عن عشق نادر الوجود)، ثم يذكرنا
بقصص العشق القديمة التي خلدها التاريخ وترويها كتب التراث، مضاد ومي،
قيس وليلي، جميل بثينة....،.....
كانت تحاول الابتعاد عني دائمًا، لا أدري لماذا؟ ثم يطير بنا لمحمد عبدالحليم
عبدالله ورواية «بعد الغروب» ورواية «غرام حائر».
فمحبوبته التي ينتمي ويهرب إليها دائمًا هي ملهمته مهما صال وجال بين حماقات
وانكسارات وهزائم، تجعله يعود متمنيًا أن ينهض من كبوته ويتلقفها مغنيًا لها
ترانيم السماء، ففي كل مرة كان حبًا من طرف واحد، فقد أعطي عزوز إسماعيل
معشوقته «مصر» الكثير ولم ينل منها ما يستحقه ويرضيه ويشبع طموحاته
ونشاطه، كان يأمل أن تحتضنه وتحتويه، تقابل عطاءه بعطاء وهي أم العطاء، ففي
كل مرة يستفيق من حبه الملهم ليجد نفسه عائدًا إليها فهي حبه الأصيل وهي قبلته-
بدايته ومنتهاه.
(لوحة الغلاف)
لوحة جمالية تجمعت من خلالها عناصر الرواية، خلفية ناصعة البياض وصورة لفتاة
جميلة، شعرها المنساب فى عفوية، وعلى رأسها طوق من الزهور، وطرحة شفافة
دليل النقاء وطهارة النفس والروح ونظرة إلى أسفل دلالة الحزن والانكسار، وقد بدأ
الفارس صغير السن صغير الحجم، يفسر مضمون الرواية، فالبطل امتطى
الصعاب مصممًا على تحقيق الآمال فى غد مشرق إن شاء الله، والخيل رمز الخير
والوجاهة، وكما جاء بالحديث الشريف «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم
القيامة وهي رمز القوة والفروسية والشجاعة»..