الأزمة الروسية الأوكرانية تُنذر بأفول عصر العولمة
ربما تُعدّ الأزمة الروسية الأوكرانية نقطة فاصلة تكرَّسَ لأفول العولمة التي نعرفها وظهور نمط جديد منها؛ فخلال السنوات الأخيرة كان هناك العديد من الإرهاصات والعوامل التي قوّضت العولمة، على نحو يشير إلى تغير أبعادها المختلفة، والتي سادت منذ انتصار النظام الليبرالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وتتمثل أبرز تلك الأبعاد في زيادة الديمقراطية، وتعزيز التجارة الحرة، وانخفاض معدلات كل من الفائدة والتضخم والبطالة، وارتفاع أسعار الأسهم، لا سيما أسهم الشركات التكنولوجية.
وفي المقابل، فإن الوضع الراهن يشهد تصاعدا للشعبوية والنعرات القومية، واهتزاز صورة الديمقراطية الليبرالية، وتآكل الثقة في قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام الغربي، وتنامي الحواجز التجارية، وتزايد اضطرابات سلاسل التوريد، وارتفاع معدلات الفائدة والبطالة، وانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، وتفاقم معدلات التضخم على نحو غير مسبوق في الكثير من بلدان العالم المتقدمة والنامية على السواء، وتزايد تقلبات أسواق الأسهم، فضلا عن غياب التكاتف والتضامن بين دول العالم لتقديم تنازلات وحلول واقعية؛ لمواجهة العديد من المشكلات العالمية المُلحة؛ كالتغُّير المناخي، وجائحة "كوفيد-19"، والتحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يؤكدّ أننا أمام عالم يشهد معسكرات وتكتلات مُتنافسة.
انعكاسات الأزمة الروسية الأوكرانية على العولمة
لقد كان ينظر إلى انتصار الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020 على أنه انتصار للعولمة، التي قوّضها سلفه "دونالد ترامب"؛ بسبب السياسات والإجراءات التي اتخذها، ومنها: الحرب التجارية مع الصين، والتي قوضت قواعد منظمة التجارة العالمية، والحدّ من الهجرة، والانسحاب من العديد من الاتفاقيات والمنظمات متعددة الأطراف، مثل: اتفاق باريس للمناخ لعام 2015، ومنظمة الصحة العالمية، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، واتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، إلا أن الأزمة الروسية الأوكرانية قد وضعت حدًا للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما تتضح أبرز معالمه في الآتي:
1- تقويض أسس النظام الاقتصادي العالمي: سيكون التأثير طويل المدى للحرب الروسية الأوكرانية هو تسريع تقسيم العالم إلى تكتلات اقتصادية، حيث ستتجه روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع الشرق، والاعتماد أكثر على العلاقات التجارية والمالية مع الصين، ليس هذا فحسب، بل ستؤدي الأزمة إلى تغيير كيفية عمل الاقتصاد العالمي لعقود قادمة، وهو ما يعكس تداعيات الأزمة السلبية على العولمة وركائزها.
وفي هذا الصدد، أشارت وكالة "موديز" إلى تزايد التكتلات الإقليمية التجارية، مع وجود ثلاثة تحولات متميزة في التجارة العالمية تجِب مراقبتها: (1) التحول من التركيز إلى التنويع، (2) التحول من الكفاءة إلى الأمن التجاري، (3) التحول من العولمة إلى الأقلمة.
وارتباطًا بتزايد التكتلات الاقتصادية والتجارية، فإن مجموعة "بريكس "(BRICS) --التي تضم كلا من الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا- تُعدّ تجسيدًا لتحدي النظام الرأسمالي الغربي، ووفقًا لتقديرات عن عام 2021، فإن عدد سكان دول المجموعة يبلغ 3.23 مليارات نسمة، وهو ما يمثل أكثر من 40% من سكان العالم. كما كانت الدول الخمس محركا رئيسا للانتعاش الاقتصادي العالمي خلال العقدين الماضيين، وهو ما يؤكد الدور المتغير لهذه الاقتصادات في العالم، فضلًا عن قيامها بدور قوي ومؤثر أيضا في مجموعة العشرين (G20) التي تشكل سياسات الاقتصاد الكلي على المستوى العالمي.
ووفقا لتقديرات عام 2021، فإن إجمالي الناتج المحلي للدول الخمس بلغ نحو 23.5 تريليون دولار أمريكي، ومن المتوقع -وفقًا لورقة صادرة عن "جولدن مان ساكس -"(Goldman Sachs) أن يتخطى إجمالي حجم اقتصادات دول مجموعة "بريكس" إجمالي حجم اقتصادات الدول الصناعية السبع (G7) بحلول عام 2035. علاوة على ذلك، فإن اقتصاد الصين سيتفوق على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2028.
2- تراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي: تسببت الأزمة الروسية الأوكرانية في مخاطر جديدة على الاقتصاد العالمي الذي يعاني بالفعل من ارتفاع معدلات التضخم، وصعوبات سلسلة التوريد، والتعافي الصعب من جائحة "كوفيد-19".
وفي هذا الشأن، تجدر الإشارة إلى أن وكالة "فيتش" قامت بتعديل توقعاتها الخاصة بمعدل النمو العالمي بناءً على مراجعة تنبؤاتها الخاصة بالأزمة الروسية الأوكرانية، والتي كانت ترى أن القوات الروسية ستنجح في الاستيلاء على "كييف"، حيث ترى الوكالة أن القتال سيستمر حتى النصف الثاني من عام 2022 إلى أن يصل الأمر إلى طريق مسدود بنهاية العام، ووفقًا لأفضل السيناريوهات، تتوقع الوكالة تأرجح نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بين 2.8% و3.6%، وهو أقل بكثير من التقديرات قبل بدء الحرب، والبالغة 4.1%.
كما خفضت –أيضًا- منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (أونكتاد) توقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي لعام 2022 بسبب الأزمة إلى 2.6% من 3.6%، وكذلك صندوق النقد الدولي، الذي خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعامي 2022 و2023 من 4.4% و3.8% إلى 3.6% و3.6% على الترتيب.
3. تفاقم معدلات التضخم: دفعت الأزمة الروسية الأوكرانية أسعار الطاقة والمعادن والسلع الغذائية وغيرها إلى الارتفاع، وتسجيل بعض تلك السلع مستويات قياسية غير مسبوقة في أسعارها؛ الأمر الذي انعكس على تفاقم التضخم في بلدان العالم المختلفة، سواء النامية أو المتقدمة، فبحسب وكالة "رويترز"، فإن نحو 60% من الاقتصادات المتقدمة لديها الآن تضخم على أساس سنوي فوق 5%، وهو أعلى معدل منذ أواخر عقد ثمانينيات القرن العشرين، في حين أنه فوق 7% في أكثر من نصف العالم النامي.
4. اضطرابات سلاسل التوريد: في ظل العقوبات الغربية المستمرة وواسعة النطاق، والتي تستهدف فصل الاقتصاد الروسي عن الاقتصاد العالمي، وتعرض صادرات السلع من أوكرانيا -أحد أهم مورِّدي الحبوب في العالم- للفوضى، وتزايد حالات الإصابة في الصين -ثاني أكبر اقتصاد في العالم– وما تبع ذلك من عمليات إغلاق لكبرى المدن الصناعية، فقد تفاقمت المخاوف بشأن تعطل سلاسل التوريد العالمية، لا سيما إمدادات الطاقة العالمية.
كما أن تداعيات اضطراب التجارة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا وأوكرانيا ليست بالضئيلة، وتضخم أسعار الغذاء هو أخطر تداعياتها، كما تضغط الأزمة بشدة على أسواق المعادن وتدفع أسعارها لمستويات قياسية؛ حيث تسيطر روسيا على نسب كبيرة من صادرات المعادن النفسية في العالم.
5. ارتفاع أسعار الفائدة: عقّدت الأزمة الروسية الأوكرانية التحديات التي تواجه البنوك المركزية الكبرى في العالم -بما في ذلك بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي- التي تكافح لكبح التضخم دون التخلي عن خطط التعافي من الجائحة.
وفي هذا الصدد، فقد رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة، في 16 مارس 2022، وقرر ست زيادات أخرى بحلول نهاية العام، وهي أسرع وتيرة زيادة منذ أكثر من 15 عامًا، وفي 4 مايو الجاري رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة مرة أخرى بمقدار نصف نقطة مئوية.
كما رفع أيضًا بنك إنجلترا سعر الفائدة الرئيس للمرة الثالثة، في 17 مارس الماضي، فيما أعلن البنك المركزي الأوروبي -بشكل غير متوقع- أنه قد ينهي برنامجه الطويل الأمد لشراء السندات بحلول سبتمبر المقبل؛ مما يفتح الطريق لأول زيادة في سعر الفائدة الرئيس منذ عام 2011.
بالإضافة إلى ذلك، رفعت البنوك المركزية في معظم أنحاء العالم، بما في ذلك كوريا الجنوبية، ونيوزيلندا، وسنغافورة، وهونج كونج، وتايوان، أسعارَ الفائدة؛ استجابة لتصاعد الضغوط التضخمية، ورفع سعر الفائدة بالولايات المتحدة الأمريكية.
6. حدوث تقلبات في أسواق الأسهم: أدت الأزمة الروسية الأوكرانية إلى انخفاضات وتقلبات واسعة النطاق في أسعار الأسهم؛ ما أثر على أصحاب المعاشات الذين يستثمرون مدخراتهم في سوق الأوراق المالية، كما أدت حالة عدم اليقين إلى تطلع بعض المستثمرين أو المدخرين إلى حماية أموالهم أو أصولهم عن طريق نقلها إلى "الملاذات الآمنة" التقليدية، مثل الذهب. وبالفعل، تكبدت أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم خسائر فادحة في أعقاب بدء الصراع الروسي الأوكراني، حيث سيطرت حالة من القلق على المستثمرين، وتزايدت المخاوف في الأسواق العالمية في ظل تفاقم معدلات التضخم، واتجاه البنوك المركزية في العالم إلى تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة.
7. تراجع الديمقراطية وبروز سباق تسلح عالمي جديد: قد يستغل عدد من القوى غير المنخرطة في الأزمة الروسية الأوكرانية بشكل مباشر تشتت انتباه العالم في ظل الأزمة وتداعياتها لإثارة التوترات في مناطقها، فضلا عن تجدد سباق التسلح (بما في ذلك الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت) بين روسيا والدول الغربية، حيث بدأت الدول الأوروبية التفكير في إعادة هندسة الأمن القومي الأوروبي، بما في ذلك إنشاء جيش أوروبي موحد، وزيادة الإنفاق العسكري لتعزيز قدرات الجيوش الأوروبية، فعلى سبيل المثل، أعلن المستشار الألماني "أولاف شولتز" اعتزام حكومته زيادة الإنفاق الدفاعي، وإنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتحديث أنظمة الدفاع التي عفا عليها الزمن، مع التزام بلاده بدفع ما قيمته 2% من ناتجها المحلي الإجمالي إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو".
وختامًا، يتضح مما سبق تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية التي تمتد لتشمل الاقتصاد العالمي والدول والشركات والأفراد، على نحو يكرس لأفول العولمة التي أرست دعائمها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون، حيث إنه من المتوقع ظهور نمط جديد من العولمة يختلف عن ذلك الذي ظل قائمًا منذ تسعينيات القرن الماضي، نمط سيشهد صراعًا حول إرساء القواعد الجديدة للعولمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من جانب، والصين وروسيا وشركائهما من جانب آخر.