كيف تغلبت سنغافورة على الفساد بـ"ست" خطوات رئيسية
سياسات مكافحة الفساد في سنغافورة
منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عانت سنغافورة من انتشار الفساد بشكل كبير داخل مختلف أجهزتها الحكومية. جاء ذلك في إطار الضعف العام الذي انتابها خلال فترة خضوعها للاستعمار البريطاني؛ حيث الإطار التشريعي الضعيف، وانتشار الأمية بين السكان، وانخفاض الأجور، وعدم شفافية الاقتصاد.
في خضم هذه الأجواء المتدهورة، فاز رئيس الوزراء السابق "لي كوان يو" (Lee Kuan Yew) بالانتخابات التشريعية، ووضع برنامجًا لمكافحة الفساد، تحت شعار "تريدون محاربة الفساد؟ إذن، استعدوا لإرسال أصدقائكم والأقارب إلى السجن"، والذي استطاع من خلاله القضاء على الفساد، عبر عدد من السياسات الرئيسية، في مقدمتها التالي:
جهاز مستقل لمكافحة الفساد: امتلكت سنغافورة بالفعل مكتب مختص بالتحقيق في قضايا الفساد ومكافحتها، تحت مسمى "مكتب تحقيقات الفساد" (The Bureau of Corruption Investigation)، لكن المكتب ذاته عانى من انتشار الفساد بين موظفيه.
انطلاقًا من هذا، عمد رئيس الوزراء السابق " لي كوان يو" إلى القضاء على الفساد المستشري بمكتب "تحقيقات الفساد" عبر عدد من التغييرات الجذرية، جاء في مقدمتها إلغاء حصانة المسؤولين، وتعزيز الشفافية والرقابة عبر منح وكلاء المكتب الحق في التحقق من الحسابات المصرفية والممتلكات، ليس فقط للمسؤولين، ولكن أيضًا لأطفالهم، وزوجاتهم، وأقاربهم وحتى أصدقائهم.
طبقًا لهذا، فإذا كان المسؤول وعائلته يعيشون بما يتجاوز إمكاناتهم، فإن "مكتب مكافحة الفساد" يبدأ التحقيق تلقائيًّا دون أي أوامر مسبقة من السلطات العُليا. وقد ركز محققو المكتب في هذا السياق، على المسؤولين في المستويات العليا من السلطة، وخاصة الذين يتلقون الرشوة، حتى وصل الأمر إلى التحقيق مع رئيس الوزراء وعائلته عدة مرات، كما تم إلقاء القبض على العديد من الوزراء الفيدراليين، ورؤساء النقابات، وقادة المجتمع، وكبار مديري الشركات الحكومية.
ولتسهيل عمليات التتبع والمراقبة، عمدت سنغافورة إلى تبسيط القوانين، وإزالة أي غموض بها، ومنحت القضاء الحق في المصادرة التلقائية لأي دخل ناتج عن أعمال الفساد، كما رفعت الحد الأقصى لغرامة الفساد من 10 إلى 100 ألف دولار سنغافوري (عام 1989).
سنّ القوانين الرادعة: اعتمدت سنغافورة أيضًا على تشريعين رئيسين لمحاربة الفساد، وهما: "قانون منع الفساد" (The Prevention of Corruption Act) و"قانون الفساد والإتجار بالمخدرات والجرائم الخطيرة الأخرى" (The Corruption, Drug Trafficking and Other Serious Crimes Act).
عبر هذين القانونين، استطاعت محكمة "التحكيم الدائمة"، محاكمة الأشخاص الذين يقدمون أو يتلقون رشاوى في كل من القطاعين العام والخاص. وبعد الانتهاء من التحقيقات، يتم تسليم جميع قضايا الفساد إلى غرف النائب العام للحصول على موافقة للمضي قدمًا في إجراءات المحاكمة.
العيش في حدود الإمكانات: أصدرت سنغافورة كذلك قانونًا يسمح بالنظر في حقيقة ما إذا كان المتهم يعيش بما يتجاوز إمكاناته، وما إذا كان تحت تصرفه ممتلكات لا يمكنه الحصول عليها من دخله، كدليل على حصوله على رشوة. وطبقًا لهذا القانون، فأي مكافأة يتلقها مسؤول من أي شخص يسعى إلى الاتصال بالحكومة، تُعد رشوة، حتى يثبت العكس.
يعني ذلك نقل عبء إثبات البراءة إلى المسؤول الحكومي الذي يتعين عليه إقناع المحكمة بأنه لم يستلم رسومًا في إطار مخطط الفساد. وفي حالة ثبوت تلقيه رشوة، تصبح ممتلكاته عرضة للمصادرة، ويتحمل هو غرامة كبيرة، وقد يصل الأمر إلى السجن.
الراتب المرتفع ضمانًا للنزاهة: كان ذلك العنصر الثالث والمهم في برنامج "مكافحة الفساد" بسنغافورة، فبعد اتخاذ إجراءات رادعة لمنع الفساد، عمدت الحكومة إلى زيادة رواتب المسؤولين، وموظفي الخدمة المدنية، كضمان للنزاهة، ولمنع أي احتمالية لانخراطهم في أعمال غير مشروعة.
الإعلام الجماهيري: استطاعت سنغافورة أيضًا تكوين إعلام مستقل وموضوعي يغطي جميع حالات الفساد التي يتم اكتشافها، ومن خلاله تم أيضًا الثناء على المسؤولين الذين يكشفون قضايا الفساد بمختلف مستويات الدولة ووظائفها.
استقلالية القضاء: حرصت سنغافورة كذلك على تحقيق استقلالية القضاء بعيدًا عن التدخلات السياسية، ولتحقيق ذلك، جعلت تعيين رئيس القضاة يأتي من قِبل الرئيس بعد التشاور مع رئيس الوزراء ومجلس مستشاري الرئيس. كما يتم تعيين قضاة المقاطعات وقضاة الصلح من قِبل الرئيس بالتشاور مع رئيس القضاة.
المصدر: مقتطفات تنموية- السنة الثانية- العدد(19)