إشكالية الحدث في الببلوماني الأخير ( 1 )
د. عزوز علي إسماعيل
مجموعة قصصية متميزة جداً حملت ذلك العنوان "الببلوماني الأخير" للأديب والكاتب شريف عبدالمجيد، وهي مجموعة قصصية محيرة ومقلقة ومدهشة؛ تأتي في سياق إشكالي بالدرجة الأولى وهو ما عودنا عليه الكاتب من قبل في عدد من المجموعات
القصصية، ويبدأ إشكال هذه المجموعة من الإهداء والتصدير، ويضعنا في مأزق البحث عن الحرامي اللص سارق الكتب ويصفه بأنه عظيم وهذه إشكالية أخرى، فمن جاي مونتاج وما قصته؟. وتكتمل دائرة القلق والحيرة بوجود فرانز كافكا في جريمة قتل أخوية، وهذا أمر يستدعي الانتباه والحيطة، فالأمر يتطلب التوضيح والشرح ولن يتأتى ذلك إلا من خلال قراءة المجموعة فهناك حتماً امتداد بين عتبتي الإهداء والتصدير بما يحتويه العمل من أوله إلى آخره وهو ما سنراه في أركان المجموعة.. نلحظ أن النظرة الكفكاوية تأتي منذ البدء حتى المنتهى في بعض المناحي، ففي القصة الأولى نجد الكاتب يربط الذواق أي من يتذوق الطعام والأكل بقضية مثيرة للجدل حتى الآن، وهي قتل محمد علي باشا للمماليك بعد تناولهم الوجبة الدسمة في القلعة وهو ما عرف بمذبحة القلعة التي دبرها للمماليك، حتى يستتدب له الأمر وامتلاكه زمام الأمور؛ وحتى"يستمتع بالنارجيلة على صوت كركرتها وهو يسحب أنفاس دخانها وينفثه فتصنع أشكالاً لا نهائية تعضد أحلامه بالسلطة وتوريثها لأولاده وأحفاده". فكان الأكل والوليمة الضخمة بداية لحالة القتل التي عرفناها، وهذا أول امتداد لنظرية القتل أو النظرة الكفكاوية للأحداث التي صدر بها الكاتب هذه المجموعة الرائعة. الأمر الثاني لنظرية القتل نراها جلية في القصة الثانية "رائحة الجوافة" حين قتل رجل الأعمال المشهور حسن طيارة العامل حمدي عبدالسميع الذي كان يعمل لديه في الفيلا فقد كان العامل مستاءً وغضبانا بسبب عدم أخذ راتبه منذ أربعة شهور، وأصبح السيد قنديل محمود وكيل النيابة في حيرة من الأمر؛ باحثاً
عن أسباب القتل، فقد كان هذا العامل يعرف كل شيء عن تلك الفيلا وصاحبها وزوجته.. من هنا فإن المجموعة بأكملها تحمل ذلك الامتداد المأساوي من القتل والترويع منذ الافتتاح والتصدير الكفكاوي حتى النهاية والقصة الأولى "الذواق" وهي قصة مثيرة من
عدد من النواحي أولها إشكالية الطعام عند الناس والكاتب، وكيف أن هذا الطعام كان من الممكن أن يكون مدخلاً عظيماً لكتابة التاريخ، ولماذا لا يكون سبباً في انتصار أو هزيمة بلد من البلدان، وهو ما يثيره الكاتب، والقصة الأولى يحق لها أن تكون سيناريو سينيمائي
مع عدد من القصص الأخرى. يبدأ بإلقاء الضوء على بطل القصة وهو ذلك الشاب البدين الذي ليس له هم في الدنيا إلا الأكل، ويعلل ذلك الكاتب بأن الأكل بالفعل كان وما زال من أهم الأشياء في حياة الملوك، ويضرب مثلاً بالملك فاروق وما كان يصنع له من عصر
الحمام والخراف من أجل أخذ الفائدة في كوب واحد فقط فيه خلاصة المأكول.. ويظل الكاتب في استجداء المؤرخين لكتابة التاريخ حول تلك المأكولات الشهيرة ولماذا لا يكون لها الحظوة الكبرى في كتاباتهم وربطها بالحروب والانتصارات مثل "الكرواسون" الفرنسي ويحاول التأكيد على تاريخية أحداث ظهوره في فرنسا وربطه بانتصاراتها على الآخرين، ثم يذكر ارتباطه بأماكن أخرى. وهكذا في باقي المتوالية القصصية.
بداية نقطة التأزيم وإشكالية الحدث تكمن في القتل مع أحداث التاريخ فبداية التأزم من إشكالية الحدث التاريخي للطعام لماذا لا يلجأ المؤرخون في وضعه نصب أعينهم بأنه قد يكون سبباً عظيماً لكتابة أحداث مثيرة كما هو الحال عند الملوك وعلية الأقوام؟. فالحدث
هنا في هذه القصة هو الأكل وربطه الكاتب بالقتل كما هو في بااقي المجموعة وما ينتج عنه، ارتباط الحدث بالتاريخ هو في حد ذاته قمة الإثارة فيتناول الكاتب الأكل أو الطعام من زوايا تاريخية مهمة ومقلقة وكأنه يلفت انتباهنا إلى تلك النقاط الغائبة عنا معشر الأدباء
وأنها أركان أدبية مهمة لو أنصفناها أدباً، فالطعام لديه ارتبط من ناحية بالخيانة والتي دبرها محمد علي للمماليك وكانت أشهر وليمة لأشهر مذبحة عبر التاريخ، على الرغم أن تلك الحادثة لم تغادر كتب التاريخ إلا أنه لم يلتفت إليها أحد أن يوظفها أدباً كما فعل الكاتب
هنا. كذلك الأمر ما فعلته بريطانيا العظمى مع الهند من أجل التوابل والأطعمة وتجارة تلك التوابل المهمة.
قصة "الذاواق" تسير على خطين متوازيين؛ الأول خط الذواق هذا الشخص البدين عاشق الأكل وما يحدث له منذ الصغر حتى الكبر، حيث أصبح أهم مستشار للأطعمة بين أقرانه؛ وكان لزاماً عليه أن يبحث عن أفخم المطاعم لمعرفة أنواع الأطعمة المختلفة عند الشعوب، وهذا ما أظهره الكاتب بجلاء بدءاً بالطعام الصيني والشوسي والفيتنامي خاصة مع تلك المطاعم الموجودة في القاهرة، الأمر الذي جعل هذا الذواق يقدم برنامجاً حول الأطعمة المختلفة وما نتج عنه في نهاية المطاف من خيانة خطيبته له وأخذ فكرة البرنامج
منه بعد أن أقنعوه بأنه لا بد وأن يجري عملية تكميم للمعدة؛ حيث تعرض لألم بسبب السمنة المفرطة.. والخط الآخر خط التاريخ وما يحدث لتلك الأطعمة عبر مراحلها المختلفة، وما تنتجه المطاعم المختلفة للبلاد الشرقية والغربية. نلاحظ أيضاً أن الخط الأول؛ خط الذواق تصل به الحالة إلى حد الشراهة في الأكل وما ينتج عنه من بدانة مفرطة وهو الحال الذي انتهزته البرامج المختلفة والمطاعم المختلفة للإعلان عن الأطعمة لديها، فأصبح صديقاً للطعام، وما نتج عن ذلك من عدد من الخيانات وسرقة الأفكار؛ في البدء كانت خطيبته التي خانته وأخذت فكرة البرنامج والتسويق لنفسها وهو امتداد للتصدير الخاص بسارق الكتب. ثم خيانة الطبيب المعالج له بأن عليه أن يظهر في برامج خاصة أخرى ويكون راعياً رئيساً لأدوية التخسيس شريطة أن يعلم الناس أن السبب في نزول وزنه حد النحافة ليس عملية التكميم، بل كان عن طريق تلك الأدوية. وفي الوقت نفسه كانت هناك مساومة بينه وبين القناة الفضائية التي كان يعمل بها مقدما لبرنامجه الأول فقد عرضوا عليه أن ينسج تاريخ حياته منذ السمنة حتى النحافة للتسويق لهم والاستفادة منه. وهنا الكاتب يسخر من تلك الحماقات البائسة والانتهازية الحمقاء عند البعض، والعيش على قفا الآخرين بطريقة أو بأخرى.
وما يبهرني هنا أن الكاتب يعزف على القصة الإطار، وهو ما يذكرني بألف ليلة وليلة، فكما أن هناك قصة إطار للرواية أيضاً هنا وفي هذه المجموعة يوجد إبداع حقيقي عند الكاتب شريف عبدالمجيد في وجود قصة إطار، يبدأ بها ثم يشتت المتلقي مع وجود خيط
رابط منذ البدء حتى نهاية القصة، كما رأينا في قصة "الذواق" وأيضاً في قصة "رائحة الجوافة" حيث الجو التشاؤمي الكفكاوي والذي ظل مسيطراً على الكاتب حتى نهاية المجموعة، "رائحة الجوافة" يضع لها الكاتب قصة إطار أو مسرح له خشبته المعروفة لنرى من خلال ذلك المسرح الخلفيات الخاصة بكل جزئية في المسرحية القصصية التي ستلعب عليه، وهو ما نجح فيه الكاتب ببراعة وقوة اقتدار في القصة الإطار. هذا رجل عامل زراعي باع أرضه التي كان يعيش عليها وأسرته والتي كانت تحوى أشجار الجوافة ورائحتها النفاذة وبنى له بيتا من طابقين ثم ترك أسرته ورحل إلى القاهرة ليستقر فيها ليعمل عند رجل الأعمال الشهير صاحب القناة الفضائية المعروفة والجريدة واسعة الانتشار، وأصبح يعلم كل شيء عن رجل الأعمال وزوجته الفنانة المعروفة للجميع، ثم يصدمنا الكاتب بعملية القتل باعتبار القتل هو الحدث المأساوي في معظم القصص.
وأصبحت هناك إشكالية كبرى في الحدث هنا وهي قتل هذا العامل وتركنا وكيل النائب العام في قلق وحيرة ومفترق طرق وراء الأسباب التي جعلت رجل الأعمال الشهير يطلق النار على هذا العامل البسيط، ويصف لنا الكاتب مشهد القتل كما جاء على لسان الوكيل بأن
الحوار بينهما لم يستغرق دقائق أي أن النية كانت مبيته، وقد بنى الكاتب الحدث على عدة أمور أهمها أن القتيل كان على علم بكل ما يحيط بالقاتل أي أن هناك أسباباً أخرى وراء القتل غير تلك المعروفة من تأخير في دفع المرتب، الأمر الذي استبان من خلال سرد رجل الأعمال حسن طيارة، حيث طمع العامل في زوجته وأرادها لنفسه، ونلاحظ أن كلما امتد زمن السرد في القصة يزداد المتلقي توتراً لعلمه بأشياء فيها كسر لتوقعاته، وهذا ما يفعله الكاتب وبقوة في العمل، أي أن تأزيم الحدث يزداد كلما توغلنا في العمل، وهو ما نلحظه
أيضاً ارتباطه القوي بعتبة التصدير للعالم الكفكاوي. فالحدث هنا هو القتل. ويحاول الكاتب أن يبرر الحدث أو المشكلة في نهاية سرد "يوم عادي في حياة رجل أعمال"ص27.
يقول: "يأتي ذلك الشاب الصعلوك، ويتعدى الخطوط الحمراء ويحاول الصعود الطبقي من خلاله، كيف خانه ذكاؤه؟ وتصور أن ذلك الأمر سيمر مرور الكرام، كان يجب أن يحصل على جزائه.". وهو ما حدث من تأزم للحدث عن طريق القتل.
ويتأكد الأمر رويدا رويداً من خلال حديث الفنانة المشهورة فهي لم تظهر للعالم بجهدها؛ لأن زوجها الثري هو من أظهرها بعد أن قدمت تنازلات شتى، فهي جميلة وخفيفة الظل وعلى حد تعبيرها "هي معادلة وهي صفقة يخرج منها الجميع فائزاً" وهو إسقاط رائع من الكاتب على الواقع المعيش وتأتي على أحد أسباب القتل الذي ناله العامل حمدي عبدالسميع بسبب معرفته "الغرفة الخضراء" فتقول في صفحة 29: "وحمدي هو الوحيد الذي شاهد الغرفة الخضراء السرية، ومن يجلسون فيها على موائد القمار؛ حيث يجري التوسط في عقد الصفقات كل ذلك يحتاج مهارات خاصة وتنازلات". نلحظ هنا التدرج في النتيجة أو في أسباب التأزيم.. إنه الفارق الطبقي الذي حدا بالقاتل والقتيل أن ينال كل واحد منهما من الآخر، ولكن الفقير لم يستطع أن يصل إلى هدفه سواء أكان بالسرقة ليعيش عيشة هنية أم بقتل الآخر الذي يمنعه من ذلك الثراء، فعلاً إنها صفقة كبيرة أراد إظهارها الكاتب في تلك الحياة الباذخة.. وما زالت رائحة الجوافة تثير حفيظة الأشقياء الغلابة يريدون أن ينعموا بالدف المالي والثراء المنعش، ولكن هيهات هيهات..
وللحديث البقية