إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

صورة سيلفي" من منظور ثلاثي الأبعاد بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي



عرض.طارق أبو حطب 


تقديم: 

لعل ما يجذبك للوهلة الأولى و أنت تقرأ إبداعات الناقد الكبير الأستاذ الدكتور سعيد محمد المنزلاوي هو ما تلتحف به كتاباته من الرؤى الموضوعية و الصدق غير المقنع بأقنعة التزييف و المجاملة فهو باحث جاد صادق مع نفسه و مع ما يطرحه لذا يتغلغل في أعماق ما يكتب ليسبر أغواره فتتلمس أنت هذا التوغل في أعماقك 


و أدعك لتهنأ و تنعم و تحيا بصحبة الأديب الكبير الناقد الفذ الأستاذ الدكتور سعيد محمد المنزلاوي 


زاوية الرؤية أو المنظور، هي الزاوية أو الاتجاه الذي يرى فيه المصور الموضوع المراد تصويره.


 وتختلف الحكاية الواحدة لاختلاف الرواة وتتعدد بتعدد الرواة.


 وفي قصة "صورة سيلفي" للأديبة المبدعة "سوسن حمدي" اختلفت الطريقة التي ينظر بها الرواة الثلاثة إلى ذات الحدث، نظرًا لاختلاف زاوية الرؤية، وطبيعة كل راوٍ؛ فقد بلغت براعة الكاتبة أن عالجت حدثًا واحدًا من أكثر من زاوية، أمسك الراوي الخارجي القابض على زمام السرد بخيوطها جميعًا، مثلت المنظور الأول السيدة التي تراقب الفتاتين ويشاركها المراقبة من زاوية أخرى أحد الشباب، ثم الفتاتان، واللتان تمثلان المحور الرئيس المحرك للأحداث، ومن ثم كانت استعارة المصطلح من الفن التشكيلي إلى المجال القصصي معبرًا أيما تعبير عن القصة حكاية وسردًا.  


 ويأخذنا البدء إلى مسرح الأحداث، والتي جرت فيها أحداث تلك القصة: "وضعت قدميها بهدوء داخل المركب المتهالك الذي يقلها إلى البلدة المجاورة".


 تحمل الجملة السردية السابقة مفاتيح الولوج إلى عالم النص وتحدد مسرح الأحداث والتي تنحصر في ذلك المركب المتهالك والذي يقل الركاب إلى البلدة المجاورة لقضاء أغراضهم المختلفة؛ تقصدها السيدة لأخذ نتيجة تحاليل ابنها المريض، كما أنها مأوى للفتاتين الصغيرتين، وربما كانت مأوى لذلك الشاب الذي يراقب المشهد غير مكترث بفداحة الرزء عندما أصابت الجوالَ بعضُ قطرات الماء. كما تشي الافتتاحية ببعض الصفات الشخصية للمرأة، والتي تتسم بالهدوء والذي قد ينبئ كذلك عن عمرها، فقد جاوزت مرحلة الشباب إلى ما بعدها مما يسم صاحبه بالرزانة والهدوء.

كما تحمل حياتها جملة من المفارقات بين اليوم والأمس: فقد "كانت في طفولتها تجلس هنا أيضا، كثيرًا ما كانت تنهاها والدتها عن فعل هذا وتطالبها بالابتعاد عن الحافة حتى لا تعرض نفسها للغرق، الآن بإمكانها أن تجلس كيف تشاء دون أن يطالبها أحد بتغيير المكان".


 وبين الاسم وواقع المسمى به؛ فهم "يدعونها بفرحة، لكنها لا تتذكر مواعيد فرحتها التي عاشتها في هذه الحياة". حيث تكمن معاناة تلك المرأة في مرض ابنها، ورحيلها إلى البلدة المجاورة على الضفة الأخرى للنهر، تراقب الشمس لحظة الغروب وتأمل أن ينتهي بها اليوم دون مزيد من الأحزان؛ ولعل أصدق تعبير على معاناتها تلخصه تلك الجملة السردية "تتلاطم أمامها الأمواج فتعلو حتى تقترب منها فتندي بشرتها ببعض قطراتها العذبة، ثم تهدأ من جديد"، فهي بين خوف ورجاء؛ وشعور بعدم الأمان، فعندما "تهادت المركب قرب اليابسة وتأهب الجميع للنزول، لم تكن هناك أيدي والدتها تنتظرها كسابق عهدها عند الوصول؛ لتمدها إليها كما اعتادت وتمنحها أمانا قبل الصعود".


 ولذا عندما شاهدت لهو الفتاتين بالجوال، تمنت أمنية غريبة أن تجد مَن يمنحها "هاتفًا كالذي تحملانه، وتتعجب "كيف تجلسان أمامي بهذا القرب ولا تشعران بدقات قلبي وهي تنتظر نتيجة التحليل الأخير الذي سيخبرني عن نسبة الورم الذي تغلغل بأمعاء ابني ومعه سيحدد الأطباء إجراء العملية من عدمه!".


 فثمة انفصال بينها وبين الآخر بالرغم من الاقتراب الشديد في المركب الضيق، إلا أن مشاعر كل واحد منطوية عليها صدره، لا يشعر بمعاناته غيره. 

ولا يزال البطء يسري عبر الزمن متعانقًا مع المكان في انتظار "وصول الأشخاص ليملأوا فضاء المركب الضيق"؛ ليتم استكمال المشهد الرئيس في القصة: "جلست قبالتها فتاتان تحملان هواتف ذكية، أخذتا تعدلان من وضعيهما ومن لفة طرحتهما مرات عديدة قبل أن تلتقطا صورًا سيلفي لهما، وضعتا الحقائب التي تحوي الكتب جانبًا، ولم تعبآ بسقوطها حين عدلتا من وضعهما مرات عدة، بل أخذتا تمدان شفاههما للخارج لأخذ وضعية (بوز البطة)، ومعها ظهرت الشفاه المصبوغة بالأحمر الفاقع، والعيون التي رسمت بعناية بقلم الكحل، ثم رفعتا إصبعيهما الإبهام والخنصر عاليًا علامة النصر، ثم رفعتا ذيل الطرحة، ثم اقتربتا، فابتعدتا وابتسامة ساذجة لا تفارق شفاههما في كل مرة، وصوت الهاتف لا يتوقف لالتقاط تلك الصور المهمة التي جعلتهما في عزلة عما حولهما".


 يمثل المشهد السابق نافذة تطل منها الشخصيات على هذا الحدث الجاري، وليتم النظر إليه من ثلاث زوايا مختلفة:

منظور السيدة الأولى: والتي كانت ترى في الفتاتين معادِلًا موضوعيًّا لها، ولكن على النقيض، "كانت تنظر إليهما وتبتسم وتتساءل فيما بينها وبين نفسها من يبدل بيننا الأدوار؟".


 و"من يمنحني هذا الفراغ الهادئ في العقل؟ ومن يمنحني هاتفًا كالذي تحملانه بعدما بعت شبيهه الذي كنت أملكه لكي أشتري لابني أكياس الدم والبلازما قبل أن ينفد المخزون لديه!"

منظور أحد الشباب: "والذي يعتلي منصة المركب، وبدا في وقفته ونظرته إعجابه بما يدور حوله".


 وعندما أصابت الهاتف بعض المياه "علا الموج فجأة ولم يستطع القائد تفادي الموجة فاصطدمت بالوجوه القلقة، ومعها أصابت الهاتف ببعض المياه، ما جعل إحدى الفتاتين تقف صارخة:

- الموبايل باظ، مش تاخد بالك يا أسطى.


وأخذت تمسح فيه وهي متأففة"؛ "علت ضحكات الشاب بالأعلى وهو يراقب ما يحدث"، دون أن يكترث لمصابهما، مما يؤكد على الانفصال النفسي والاجتماعي.

منظور قائد المركب ذو اللحية البيضاء، وهو "ينظر إليها بصمت". فلا حيلة له فيما جرى، ولكنه يقود إلى نهاية متوقعة، كما أن هناك جملتين تحملان إرهاصًا بالنهاية: الجملة الأولى "وهي على جلستها عند الحافة"، في انتظار الركاب حيث تعزف على وتر الذكريات لتلك البقعة المميزة، عندما "كانت في طفولتها تجلس هنا أيضا، كثيرًا ما كانت تنهاها والدتها عن فعل هذا وتطالبها بالابتعاد عن الحافة حتى لا تعرض نفسها للغرق". وتتآزر تلك الجملتان معًا مع إحدى الجمل الختامية، "خرجت بصعوبة مع التزاحم الحادث، عبرت بجسدها المسافة الفاصلة بين الماء واليابسة".


 وتمثل هذه المسافة لحن الختام، والهوة السحيقة التي تبتلع أحلام الفتاتين، وتطمس ملامح تلك الصورة التي بنيت عليها القصة؛ لتئد أحلام الفتاتين في الاحتفاظ بصورة جمعتهما معًا للذكرى، وأمنية المرأة التي تمنت أن تحمل جوالًا كهذا الذي كانت تحمله إحدى الفتاتين. مما يجعل من الجوال شخصية رئيسة تعددت مظاهرها وتباين حضورها في النص بين الغاية والحلم، وبين الامتلاك والتمني مما جعل له القدرة في تحريك الأحداث والدفع بها إلى النهاية.

ويأتي دور الراوي الخارجي في توثيق الحدث، وهو يرصد حركة الكاميرا بين المرأة والشاب والفتاتين محوري الحدث، إلى أن يصل بنا إلى المشهد الختامي، حيث تنبعث "صرخات الفتاتين وهما تعبران وقد سقطت الهواتف من أيديهما في الماء دون القدرة على انتشالها".


ولم يكن الصراخ بسبب فقد الموبايل: "أنا مش زعلانة على الموبايل"، وإنما كان حزن صاحبته على ما يحتويه من صور: "أنا بس زعلانة على الصور بتاعتي اللي فيه".


 فالذكرى أغلى ما يمتلكه الإنسان.

وتُختتم القصة بتلك المفارِقة السردية: "كان صوتاهما يبتعد، في حين كان صوت هاتفها الرخيص يدوي في حقيبتها دون أن تمتلك القدرة على فتحه وسماع ما جاء فيه".


 مستعيدة أمنية السيدة أن تمتلك مثله، وأمنية الفتاتين أن تحتفظا بالصورة السلفي، ولكن تلك الأماني جميعها ابتلعها النهر

صورة سيلفي" من منظور ثلاثي الأبعاد   بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent