recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إعلان

كلمة أ.د. عبدالحميد مدكور في مؤتمر مجمع الخالدين السنوي بالقاهرة "اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة "




 

 كلمة أ.د. عبدالحميد مدكور في مؤتمر مجمع الخالدين السنوي بالقاهرة "اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة "












كتبت - فتحية حماد

























قال الأستاذ الدكتور عبدالحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية في مؤتمر اللغة العربية السنوي "اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة " في دورته التاسعة والثمانين إن من بشائر الخير ودلائل التوفيق أن نلتقي اليومَ بكم، وأن نسعد بوجودكم في المؤتمر العلمي السنوي لمجمع اللغة العربية الذي يمثل فرصة سانحة طيبة للحديث عن اللغة العربية في واقعها، وفيما تواجهه من تحديات وأخطار كبرى تتعرض اللغة العربية لها، وهي تحديات وأخطار تسعى إلى زحزحة اللغة العربية عن مكانها، بل لعلها تسعى – ولو على المدى البعيد- إلى أن تهدد وجودها، وأن تعمل على الحلول محلها، وأن تضيفها إلى قائمة اللغات المهددة بالانقراض، بتأثير العولمة الثقافية القادمة من خارج العالم العربي.






















ويزداد الأمر خطورة، والمشكلة تعقيدًا عندما تجد اللغة بعض أبنائها ممّن يصفونها بالعجز والبداوة والتخلف، وعدم القدرة على مواكبة تطور العلم الحديث ومنجزاته، ومن ثم يتركون لسانها إلى ألسنة أخرى، ويَدَعون ثقافتها إلى ثقافات مختلفة، ويُعرضون عن الانتماء إليها، أو الحَمِيَّة لها، أو الدفاع عنها. وهكذا تجد اللغةُ نفسَها بين شقّي الرَّحَى، تستشعر الأسى على ماضٍ عريق مجيد كانت فيه لغة العلم الأولى في العالم، وكان الراغبون في علوم الطب والكيمياء والصيدلة، والفلك والهندسة من أرجاء العالم بما فيها أوربا يأتون إلى مدينة من المدن العربية ليتعلموا العلم بالعربية، ثم هي تستشعر الأسى المتجدد الذي يدعو إليه واقع أليم تزاحمها فيه اللغات الأجنبية، واللهجات العامية، وتُزَاح -بطرق مختلفة -عن محيطها الثقافي الذي لا يصح أن يُعبَّر عنه إلا بها، وعن المواقع الاجتماعية التي لا يصح أن يكون الحديث فيها إلا بها، كالبرامج الثقافية، وقاعات الدرس المدرسية والجامعية، والمؤتمرات المحلية والدولية، ولذلك تقف حائرة تتلمس طريقها، وتطلب النجدة من أبنائها، وتستحثهم على نصرتها، وبذل الجهود للحفاظ عليها، والتمكين لها، وتقوية الانتماء إليها، وتحقيق الاعتزاز بها، والهيبة لها.





















وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي تمرُّ بها اللغة العربية يأتي مؤتمرنا هذا بعنوان: "اللغة العربية بين الهُوِيَّة القومية والعولمة".
وإذا كان لنا أن نتأمل في هذا العنوان بعضَ تأملٍ فإننا سنلاحظ أنه يتضمن أمرين مهمين هما: الهُوِيَّة والعولمة.




















فأما الهويّة فهي مزيج من صفات جوهرية ومقومات أساسية، تُعبر عن مكونات شخصية أو مجتمع ما، فتؤدي إلى التفرد، والتميز عن سواها من الهويات على نحو ما، من حيث الفكرُ والثقافة والوجدان والرؤية والآمال والطموحات، وهذه العناصر والصفات تستنفر في صاحبها كل الطاقات النفسية والشعورية والروحية والمادية أيضا عندما تواجه موقفا من المواقف الصعبة، أو تقع في مأزق من المآزق التي تهدد كيانه، فتجعله أكثر قوة وصلابة، وتحول بينه وبين الذوبان في غيره، كما تعينه في التغلب على محاولات الهيمنة عليه، مهما كانت قوة المؤثرات التي تواجهه. وهذا كله إذا كانت تلك العناصر المكونة لهذه الهوية لديه قوية حيَّة يقظة، أما إذا كانت على عكس ذلك فإنها تكون معرضة للوقوع في أسْر التبعية والذوبان، وينطبق هذا التفاعل على الفرد والمجتمع والأمة، إيجابًا أو سلبًا، كما أنه ينطبق على أنواع الهويات كالهوية الثقافية، أو اللغوية، أو الوطنية، أو القومية، أو الدينية.






























وتتمثل عناصر الهوية غالبا في الدين والمعتقدات والتاريخ المشترك واللغة، ويمكن عد هذه وهي اللغة من أهم عناصر الهوية، إذ اللغة من الوسائل الكبرى للتعبير عن الفكر والمشاعر والوجدان، وهي من أهم العناصر التي تميز النوع الإنساني عن غيره من الأنواع الأخرى من الكائنات، ثم هي السبيل الأقوى والأكبر للتعبير عما بين أفراد المجتمع من العلاقات الاجتماعية على اختلافها، من بيع وشراء، وأخذ وعطاء، ومصالح ومنافع. وباللغة يتم التعليم، وتصاغ القوانين، وتدوَّن الثقافة، ويُعبر بها عن الفكر والمشاعر، وبها تعقد العقود، وتتحدد الحقوق والواجبات، إلى غير ذلك من صور التعامل في المجتمعات الإنسانية. وإذا كان الحكماء وعلماء الاجتماع قد قالوا: إن الإنسان مدني بالطبع، فإن الإنسان الفردَ لا يستطيع القيامَ بحاجاته كلها، ومن ثم فهو محتاج إلى غيره، كما يحتاج غيره إليه، وفي ذلك يقول أبو حيان التوحيدي إن "حاجات الإنسان كثيرة غير متناهية، وربما كانت حاضرة فَصَحَّت الإشارة إليها، وربما كانت غائبة فلم تكف الإشارة فيها، فلم يكن بُدُّ من أن يفزع الناس إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح ليستدعيها بعض الناس من بعض وليعاون بعضهم بعضًا، فيتمُّ لهم البقاء الإنساني، وتكمل فيها الحياة البشرية".

























وللِّغة – فوق ذلك – صلة وثيقة بتكوين الأمم وتحديد هويتها وتجانس أفكارها وتجميع كلمة أفرادها، وهذا ما يتفق عليه رأي علماء الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا وعلماء النفس والتربية ورجال السياسة، وقادة الفكر وهؤلاء- جميعا- متفقون على أهمية اللغة للفرد وللمجتمع والأمة، وهي أيضا الأمر الجامع بين أفراد الوطن وفئاته، وهي التي تعبر عن ملامحهم النفسية، وقيمهم الأخلاقية وطموحاتهم السياسة، وتربط بينهم برباط وثيق، وينطبق هذا على الشعوب بصفة عامة، ومن ثم فهو ينطبق على العربية التي تمثل الأمر الجامع للشعوب العربية، فهي الأمر الجامع بينها والتي توحد مشاعر أهلها تحت مظلة تراثهم المجيد ولغتهم العريقة، التي هي- في الوقت ذاته- لغة دين وثقافة وتاريخ، فإذا تخلخلت مكانة هذه اللغة أو ضعفت أو غابت أو غُيِّبَت فإن ذلك يهدد الأمة بالتشرذم والضعف والتفكك والانحلال.





























ولهذا كان الدفاع عن اللغة العربية واجبا على العرب جميعًا، حاكمين ومحكومين؛ لأنها مقوم من مقومات وجودهم، وعامل قوي من عوامل وحدتهم وقوتهم، ومن ثم يكون التفريط في ذلك الرابط تفريطا في وحدتهم واستقلال شخصيتهم وإرادتهم، وهو يؤدي إلى أن تفقد الحضارة العربية بُعْدها التاريخي، وتراثها الحضاري، وإسهامها الكبير في بناء المعارف الإنسانية، كما حدث مع لغات كانت يوما ما ذات حضارة وثقافة ثم اضمحل هذا كله كالسريانية والآرامية وغيرها.































ثم إن غياب اللغة يؤدي – بالنسبة للفرد العربي – إلى أن يستشعر الاغتراب عن ثقافته العربية الراسخة وماضيه العريق، كما يؤدي إلى الوقوع في هاوية التبعية لهويات وثقافات غريبة عنه، لا يجد فيها نفسه وذاته، ولا أمْنه النفسي وسكينته الروحية.























ومن هنا يجب على الأمة العربية كلها أن تحافظ على كيانها وهويتها وأصالتها وتاريخها وحاضرها من أجل بناء مستقبلها بالطرق التي تناسبها، وأن تقاوم كل التحديات التي تواجه لغتها العربية، ومنها تحدي العولمة التي تسعى إلى فرض لغات بعينها كالإنجليزية والفرنسية والروسية وأمثالها، وتعمل على فرض هيمنتها على الفكر والثقافة واللغة، بحيث تترك الشعوب لغتها، لتُحلَّ هذه اللغات الوافدة محلَّها، وهذا يؤدي إلى التبعية الثقافية، ومن بعدها التبعية الاجتماعية والسياسية وغيرها.

















وليس هذا التحدي موجها إلى العرب وحدهم، بل إنه موجه – كذلك – إلى شعوب أخرى غيرهم من تلك الشعوب التي توصف بأنها شعوب نامية، ويراد لها أن تفقد هويتها لتلتحق بهويات أخرى تختلف عنها ثقافةً وفكرًا وقيمًا ورؤيةً، ولم يقتصر تأثير هذه العولمة عند أصحابها على جوانبها الاقتصادية، بل إنه امتد إلى جوانبها الثقافية واللغوية، وفي نطاق الأدب والفنون، ولذا تصدى كثير من المفكرين من دول آسيوية وإفريقية للعولمة، ومن أشهر هؤلاء لي كوان يو الذي أقام نهضة سنغافورة الحديثة، ونيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا السابق. وعلي العرب ألا يكونوا أقل حرصًا على قوميتهم ولغتهم من هؤلاء المحافظين على لغات أوطانهم، وعلى استقلال إرادتها، ومنهجها في التطور والتقدم المتفق مع ثقافتها وتاريخها وقيمها الحضارية.


























وأخيرًا يأتي السؤال المهم الذي يرد على الذهن عند مطالعة عنوان المؤتمر: هل ستصمد اللغة العربية أمام تأثيرات العولمة، وهل سترفع الراية البيضاء يوما ما؟ كلا ستظل باقية صامدة راسخة ولن ترفع الراية البيضاء يوما بإذن الله تعالى ، ثم بالأخذ بالأسباب التي يجب بذلها لتحقيق هذه الغاية، لأن اللغة العربية- كما أثبت التاريخ- قادرة على النزال في مجالات التنافس اللغوي، وقد تغلبت في مسيرتها التاريخية على لغات شعوب كبرى كانت أعرق من العرب حضارة، وكان ذلك بفضل الإسلام الذي سارت العربية في ركابه فوصلت إلى أقاصي الأرض شرقًا وغربًا، ثم كانت – في حقبة من تاريخها المجيد لغة العلم الأولى في العالم لمدة تزيد على خمسة قرون، ثم إن لها ظهيرا من شعوب العالم الإسلامي غير العربي وهؤلاء يتعلمونها ويتبركون بتعلمها، ويتعبدون الله تعالى بها ويصفونها بأنها لغة شريفة مباركة، ثم إن دولا كثيرة تتعلمها لكي توثق علاقتها الاقتصادية بالعالم العربي. ولا ينبغي في هذا المقام أن نغفل صلة اللغة العربية بالقرآن الكريم الذي هو من أقوى عوامل بقائها، وإمدادها بالقدرة على المقاومة لكثير من التحديات التي توضع في طريق بقائها وانتشارها، وأقول إنه وعندما اضطرت العربية - في بعض الأحيان - إلى الخروج من بعض البلاد فقد تركت فيها حروفها وكثيرًا من كلماتها ومعارفها ومصطلحاتها العلمية المبثوثة في علومها وفي بعض أشعارها كما هو الحال بالنسبة للغة الفارسية والأوردو والتركية القديمة والسواحلية وغيرها.















ومع هذا فالحفاظ على هذه اللغة يحتاج إلى جهود كثيرة في مجالات كثيرة شاملة تبدأ بالفرد، وتنتهي بالدولة، وتشارك فيها كل مؤسسات التعليم والإعلام والمجامع اللغوية والجهود المؤسسية والفردية.







كلمة  أ.د. عبدالحميد مدكور في مؤتمر  مجمع الخالدين السنوي بالقاهرة "اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة "


google-playkhamsatmostaqltradent