كتبت. هبة شيبة
تقديم:-
في هذه السطور يهيم قلم الناقد الفذ الدكتور سعيد محمد المنزلاوي مع قصيدة الشاعر المبدع الدكتور طارق أبو حطب فيغوص في أعماق النص كسباح ماهر يلتقط الفرائد و يجمع الدرر ليقدم لقارئي صدى الأمة وجبة دسمة من أطايب المفردات و أشهى الكلمات محاولا كشف المستور و إبراز جوانب التجليات في هذا النص المفعم بالجمال
.... بين يدي النص..
عندما يتحول الحب إلى أغنية يواجه بها الشاعر الخوف والخزن، تتولد بنية سردية يحتدم فيها الصراع بين الحب وبين الخوف تارة، وبينه وبين الحزن تارة أخرى.
ساحة الصراع هي الفضاء، ولكنه فضاء صاغه الشاعر بيديه. أما الزمان، فقد عزف الشاعر سيفونيته على آنية الحدث بدءًا من أول كلمة في مهد قصيدته إلى آخر كلمة في منتهاها، من خلال توجيه الخطاب إلى محبوبته في حوار داخلي استغرق في دائرته النصَّ كله.
وعلى نغمته الأثيرة من بحر الوافر، والذي يتناسب والمقاطع القصيرة التي صاغ منها قصيدته، والتي نلاحق تواثبها في خفة وسرعة، حتى لنكاد نسمع أنفاسه الحرى ودقات قلبه المرتجف. كما جاءت أغلب التفعيلات معصوبة؛ مشكلة استراحة بين الفينة والفينة يلتقط فيها الشاعر أنفاسه من ثقل المعاناة التي ينوء عن حملها في مواجهته لذلك الخوف القائم بين الضلوع، والحزن القابع في قلبه.
ونلج إلى النص من عتبة العنوان، "أغنيك"، والتي تحوي في صورتها المجتمعة فعلًا وفاعلًا ومفعولًا، ويكون الفاعل المستتر (أنا) معادِلًا لإسقاط الذات على الموضوع، مما يجعل من نفسه محورًا للنص من خلال المناجاة التي تفصح عن معاناة الذات وصراعها.
الشاعر لا يروي أحداث قصة منصرمة، ولكنه يسرد واقعًا حيًّا يعيشه. لقد أعلن عن نفسه في دال العنوان أنه يغنيها، والغناء كما يكون للمباهج يكون للمواجع والمآسي على حد سواء، ولفظة الغناء في أصل وضعها اسم لما يتغنى به من الكلام ويترنم به من الشعر. فما الذي يغنيه الشاعر في قصيدته؟ ومن تلك التي يتوجه إليها بغنائه؟ وما هي طبيعة ذلك الغناء؟
إن التجول بين أفياء قصيدته يقف بنا على إجابات شافية تجعل الإبحار في عالم د. (طارق) الشعري كمن يستخرج الدر من قاع البحر أو يجمع النجوم من صفحة السماء الصافية.
تبدأ القصيدة بداية مرجفة متحفزة:
(يرفرف في المدى قلبي
وأنثر في الفضا خوفي)
إن رفرفة القلب كالذبيح، والقلب حين يرفرف يكون متكئًا في مكمنه بين الضلوع؛ ليحتمي بجدارها من التصدع، ولكن قلب الشاعر، يرفرف في المدى الرحب، ناثرًا بذور الخوف في الفضاء الرحب من حوله. إنه الخوف يسربل أغنيته ويقود خطاه:
(أسوق الحلم ممتطيا
نصال الهم والذكرى)
وفي قوله أسوق الحلم، ما يصور الأحلام بالأنعام، مما يشي بتبعثر حلمه، وفي هذا الشتات نراه يمتطي صهوة الهم والذكرى، وهما وجهان للحزن والخوف الساكن في قلبه.
وحال كهذه لا يأنس لها الحب، ولا يقر له فيها قرار؛ ولذا راح يفصح لنا عن نجوى فؤاده:
(أضم هواك مرتجفا
وأهمس للمدى يحلو
وأعشق كل ما فيك
وأقترب
وأرتحل
وأرنو صوب لقياك
وأشقي في تخليك
وأرقب مصرع البعد
وأكره غربتي فيك)
يبلغ الصراع أوجه، وتحتشد الأسطر السابقة بجملة من التناقضات التي تعيشها الذات في تجربة الحب، والتي يكلل هامها الخوف. كما تكثر الجمل الفعلية التي يهيمن عليها الزمن المضارع جاعلًا من آنية الحدث مرآة تكشف في جلاء الذات بكل ما فيها من تناقضات، (أقترب ـ أرتحل/ لقياك ـ تخليك)، وتلك الحال الوجدانية البحتة، والتي تتمثل في ترقبه لمصرع البعد وشعوره بالاغتراب، ما يشي بسيطرة الخوف على الشاعر. ولكنه يصر على حبه، متخذًا من مرقاة لتجاوز خوفه.
وتبدأ المقاطع التالية بكلمة تحوي تفعيلة بحر الوافر، ما يجعلها كالعنوان (أسميك ـ وأحكيك ـ أناجيك ـ ألاقيك ـ وآتيك). وهذا الملحظ كثير في تجربة الشاعر، حيث يقسم قصيدته مقاطع، يعينه على ذلك النسج على شعر التفعيلة، والذي يتيح له الاقتراب من السرد في تعانق حميم بين الشعر والسرد من خلال سرد قصة مكتملة العناصر، يعيد فيها تشكيل المكان، جاعلًا من حبه فضاءً مكانيًّا ينشئه إنشاء، فيحيك من هواه ظلال الأمن، ويحيل مفاوز الجدب أملًا وبستانًا. إنه ينسج بكلماته خارطته التي يحييان فيها كلاهما، وحينها تغدو المناجاة أغنية، يتردد صداها في الكون من حوله:
(فيغمرنا
ويثملنا
ويطربنا)
وحينها يتبدد البعد، ويكون اللقاء ترياقًا:
(فيسلو القلب أحزانا
وأشجانا
وأزمانا
من الأوجاع أهجرها
فتهجرني
فتمضى في سراب التيه
تفارقني
وتبقيك)
إن الشاعر في مواجهته الحزن بالحب، يجعل من محبوبته معادِلًا موضوعيًّا للسعادة التي ينشدها، فهي كما تفشي كلماته:
(قدري
وأيامي التي بسمت
ودنياي التي هلت
لكي تبقى)
إن المرأة عنده هي الملاذ الذي يفر إليه، وهو بين يديها لمَّا يزل طفلًا:
(يتيم القلب والنبض
سقيم الروح مرتعشا)
وهذه الحال من اليتم والضعف تعوزه إلى أم رءوم:
(تهدهدني أمانيك
تقر النفس إذ تحيا
وترنو الدمعة الثكلى
لتمسحها أياديك)
إنه يريد امرأة هي لديه كل النساء، عندها:
(يغدو الكون كل الكون لي وطن
يجمعنا
يعانقنا
يواسينا
يوادعنا
فيكفينا
ويكفيك)
إنه الامتزاج والذوب في ذلك العالم الذي صاغه، والذي لا يحوي بين أرجائه غيره وغير تلك المحبوبة التي يتوق لوجهها الأزهى، ويعشق كل ما فيها.
لقد بدأت القصيدة بالخوف وانتهت بتبديد ذلك الخوف.
وفي تأكيد الشاعر على الغناء، إنما ليستغل طاقته وتردده، لكي:
(تمرح روحنا الصديا
وترشف رشفة اللقيا
فتحيا اللحظة الغفلى)
إن الغناء ري لروحه الظمأى لذلك اللقاء في غفلة من الزمن.
وقد اتكأ الشاعر على الاستعارة كثيرًا؛ ليجسد كثيرًا من المعاني، وهو في استعارته إنما يجنح إلى التجسيد؛ ليمنح النص حياة تبصرها العين من خلال تلك العدسة التي تحيل النص إلى مشاهد سينمائية أبدع في إخراجها، فنرى القلب يرفرف، والخوف حبا ينثرها في الفضاء، ويتجسد الهوى والحلم حتى يضم الأولَ مرتجفًا والثاني في ألقه، ويصغي لهمسه المدى، وينتظر مصرع البعد؛ ليرسم بهواه ظلال الأمن، كما يحيل الكون أغنية ويمسي لهما وطنًا.