recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

"الغراس" قصة قصيرة بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي




عرض. طارق أبو حطب 


"أينعت الثمار" لمعت هذه الجملة كأضواء النيون أمام مخيلته، وهو يحث الخطا بقدمين مثقلتين بأمراض الروماتيزم والشيخوخة، لكنه شعر بخفة جعلته يعدُو كشاب في العقد الثاني من عمره، حتى اقترب من قاعة كبيرة تزينها زهور تنافس في ألوانها مصابيح النيون، والتي أحالت سماء القاعة إلى نهار. 


كانت القاعة مزدحمة بكوكبة من العلماء ورجال الأعمال وشخصيات عامة وجمع من الصحفيين والإعلاميين. تذكر وهو يتجه نحو المقعد المخصص له، يوم كانت تلك القاعة قبل عشرين سنة مأوى للقمامة والحيوانات الضالة، وقد احتلت الناحية الشرقية من المدرسة التي كان يعمل بها، يومها تواصل مع أهل القرية، واقترح عليهم التخلص من القمامة، لم يستجب أحد، لكنه لم ييأس.


كانت تواجه طلابَه مشكلةٌ في فهم مادة العلوم؛ اقترح عليهم أن يحولوا المعلومات الجامدة والمعادلات الكيميائية إلى مجسمات، وجههم إلى استغلال خامات البيئة وإعادة تدويرها.


 الزجاجات والعلب الفارغة التي كانت تلقى في الفناء شرقي المدرسة بدأت تتحول بأنامل الطلاب إلى مجسمات لأجهزة وتصميمات ثلاثية الأبعاد للمعادلات الكيميائية، تحولت فصول المدرسة إلى متاحف لمادة العلوم، أرشدهم إلى تقسيمها حسب فروع المادة، هذا الجانب للمعادلات الكيميائية وبعض قارورات لتستخدم في التجارب المعملية، وفي الوسط أجهزة القياس والوزن والأجهزة الحيوية للإنسان كالجهاز التنفسي والجهاز الدوري والجهاز الهضمي، والتي استغلوا فيها بعض البالونات واللعب والخيوط، بينما يضم الجزء المتبقي متحفًا للأحياء المائية والبرية المصنوعة من أوراق الكرتون والأقمشة، وفي مقدمة الفصل بعض البذور والنباتات المزروعة في أصص فخارية وبلاستيكية. شيئًا فشيئًا قَلَّت المخلَّفات التي كانت تُلقى في الفناء.

ألقى عصاه وجلس على مقعده، مكنته جلسته من أن يشاهد شجرة السرو العتيقة، كانت مبادرة طيبة من أحد أولياء الأمور، استجاب لفكرته فيما بعد، وتحول المكان إلى متنزه لأهل القرية، بعد إزالة القمامة منه وتنظيفه.


ازدحمت القاعة بالحضور، وبدأت مراسم الاحتفال.


 ظهرت على شاشة العرض المسيرة العلمية والعملية للعالم المصري "أمجد ريان"، أثناء متابعته الفيلم التسجيلي شاهد صورة لـ"أمجد ريان" عندما كان طالبًا في مدرسة القرية، أعادت الصورة إلى ذاكرته موقفًا له معه، عندما لاحظ تغيبه المتكرر عن المدرسة، وشرود ذهنه كثيرًا، وتقصيره في الواجبات، بعد أن كان متفوقًا ونشيطًا.


 يومها تواصل مع أسرته؛ تبين أنَّ وفاة والده سببت له معاناة نفسية حيث كان شديد التعلق به.


 بدأ يقترب منه أكثر، لم يضن عليه بوقته في إعادة شرح ما فاته من دروس. اكتشف ميله إلى الابتكار، حفزه ودعمه، ووجهه إلى استغلال موارد بيئته، غرس في نفسه الانتماء. بدأ الطفل يبتكر بعض الأجهزة البسيطة من إعادة تدوير مخلفات البيئة. تذكر تلك الطاحونة التي صممها من بعض العلب وأوراق الكرتون، وذلك المجسم لمروحة هوائية لتوليد الكهرباء استغل فيها بعض الأعواد والصفائح، بينما كانت الشاشة تعرض لاختراعاته في مجال الطاقة النظيفة، والتي أسهمت في تنمية الاقتصاد المصري.


 جعل يتمتم "الآن أينعت الثمار".


 انتهى العرض والذي انتزع الإعجاب والتصفيق من الحضور. توسطت إحدى المذيعات المسرح، وقالت بصوت كله فخر واعتزاز:

- اليوم نكرم ابنًا بارًّا من أبناء مصر، استطاع أن يسهم في تطوير العشوائيات، والقضاء على الكثير من المشكلات التي كانت تهدد البيئة، فضلًا عن جهوده في زيادة الرقعة الخضراء. 


(كان صوتها يسري كنغم آسر) ثم هتفت باسمه؛ لتضج القاعة بتصفيق حار يزفُّ شابًا في نهاية العقد الثاني، قمحي البشرة كأديم الأرض المصرية، أنفه أشم، وفي عينه بريق يتحدى به المستحيل، وقف على المنصة شامخًا شموخ حضارتنا العريقة، كان ملهمًا وهو يسرد قصة كفاحه وإنجازه، وكان يدور بعينيه بين الحضور بشكل ملفت، كأنما يبحث عن ضالة. ما إن وقعت عينه عليه، حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة ودودة. هدأت نبرة صوته وغلفها الحنين، كانت عينه تحيط به كجناحي يمامة، وهو يقول:

- لا أكتمكم سرًّا، هذا النجاح الذي وُفقت في تحقيقه ما كان له أن يكون لولا معلمي، والذي تولاني بالرعاية والتوجيه في وقت كدت فيه أن أتسرب من التعليم وتضيع حياتي هباء.


(ناداه): أستاذ "جاد". صدح النداء وسط القاعة كلحن شجي، حمل معه حبًّا ووفاءً وامتنانًا.

توجهت عدسات الكاميرا إلى الأستاذ "جاد" وتبعته العيون وهو يصعد إلى المنصة.


 كانت خطواته الوئيدة تحمل معها سنوات قضاها في حقل التعليم يغرس في الناشئة حبًّا وانتماءً ويروي نفوسهم الظمأى بالعلم والمعرفة، وكانت تعرقات يديه البارزة والتي تشبه حقلًا تحكي كم نشْأً غرسته يداه ورعته حتى أثمر. صافح "أمجد" معلمه، أجلسه على المنصة بجانبه.


 أحاط به الصحفيون والإعلاميون، انهمرت عليه الأسئلة كسيل جارٍ شقَّ طريقه إلى النهر.

- أحد الصحفيين: ماذا قدمتم لعالمنا الجليل، عندما كان طالبًا عندك؟

- أستاذ جاد: الحب، غرست فيه وفي زملائه ثمار الحب، فأينعت الثمار، وأثمرت هذا الانتماء للوطن، والوفاء لمعلميه ولذويه.

- صحفي آخر: هل كنت تتوقع ما حدث؟

- أستاذ جاد: (صمت عميق، ابتسامة رضا ارتسمت على شفتيه كجدول امتلأ بدموعه الغزيرة)، ثم هتف: نعم، لقد أحسنتُ الغرسَ، فأينعتِ الثمارُ.

"الغراس"  قصة قصيرة بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent