recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إعلان

قصة "موت وحياة" بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي




عرض. طارق أبو حطب 


بداية..... 


على بساط التميز وفي رياض الادب الرفيع ومن عبير الإبداع الوهاج نسعد بك أيها القارئ الراقي لتستمتع معنا بمطالعة هذه القصة الجديدة واللؤلؤة الفريدة " موت وحياة "للأديب الكبير الأستاذ الدكتور سعيد محمد المنزلاوي 

-----------------

•القصة•


باغتتها بقولها:

- إني أكرهك.

نزلت عليها الكلمة كالصاعقة، شعرت باللطمة وقد حفرت أخدودًا في وجنتيها سالت فيه أنهار الدمع ساخنة وحارقة. بعين متورمة من شدة البكاء نظرت إليها، كانت الأخرى تتلوى من شدة الوجع شبه فاقدة الوعي.

رغم قسوة الكلمة النازلة عليها كاللهب، إلا أنها غفرت لها، حسبها ذلك البركان المتأجج داخل بطنها بسبب ذلك المرض الذي تمكن منها. تركتها وراحت تكفكف الدمع وهي تقوم بنشاطها اليومي والذي أصبح من روتين حياتها، حيث تعد تلك الحقيبة التي تحوي بعض مستلزمات العلاج الطبيعي بجانب الدواء حسب مواعيده المحددة. لم تكد تغلق الحقيبة حتى شعرت بذراعين تطوقانها من الخلف، وتقبل رأسها قائلة في دلال واستعطاف:

- آسفة يا أمي الحبيبة.

كانت تلك الكلمة كفيلة بمحو أية آثار سابقة، كما تكفل الحضن بانتظام دقات قلبها الذي كان يرتجف قبل قليل. وبعد أن منحتها الأم قبلة المغفرة، أسرعت الابنة إلى حجرتها؛ لترتدي ثيابها، خرجت بعد دقائق ترفل في ثوب يضيف إلى سنها خمس سنوات على الأقل مبرزًا ما خفي من أنوثتها، والتي لم تنضج بعد. فغرت الأم فاها، فأدركت "نغم" فداحة ما صنعت، فهرولت إلى حجرتها كأنما يطاردها ثعبان، ثم خرجت ترتدي ثيابًا ترضي بها والدتها، والتي هزت رأسها هزات رضا وابتهاج.

بعد أن تفقدتا معًا صنابير المياه وكابلات الكهرباء والسخان والغاز، استأذنت الأم من جدة ابنتها، بعد أن وضعت بجانبها دورقًا من الماء البارد وحاوية بها بعض الأطعمة والفاكهة التي تحبها. طبعت كلتاهما قبلة على جبين الجدة، ثم استودعتاها تصحبهما دعواتها بالشفاء لحفيدتها "نغم".

بالرغم من طول المسافة بين البيت والمستشفى، إلا أنهما كانتا تقطعانها سيرًا على الأقدام كطقس يومي من طقوس العلاج الطبيعي. وصلتا إلى المستشفى متهالكتين؛ فأفسح لهما مسئول البوابة مكانًا لهما على مقعده الخشبي، تلتقطان أنفاسهما. كانتا تشعران براحة غريبة على هذا المقعد الخشبي المتهالك، والذي يصدر عنه صوت يتناغم مع تردد أنفاسهما اللاهثة.

على عجل استجمعت الأم وابنتها قواهما، ونهضتا لبدء رحلة العلاج اليومي، والذي يستغرق بضع ساعات. تجاوزت الساعة منتصف الليل، خضعت "نغم" للنوم وللعلاج، بينما قضت الأم كل تلك الساعات واقفة على قدميها، تراقب الأجهزة الطبية تارة، والمحلول تارة أخرى، وتردد النظر إلى ابنتها المرة بعد الأخرى بقلب يعتصره الألم لمصابها، تبتهل إلى الله أن يعافي ابنتها ولو ذاقت هي أوجاعها مضاعفة.

عبثًا حاولت الأم إيقاظ ابنتها والتي أنهكها العلاج والسهر؛ فاستعانت بإحدى الممرضات، دقائق حتى أفاقت "نغم"، تفتح عينًا وتغمض أخرى، وسارت خلف أمها تجر ساقيها المثقلتين بعين نصف نائمة. وكان عليهما أن تعودا أدراجهما إلى المنزل كما خرجتا منه سيرًا على الأقدام. ولم تكن إحداهما قد تناولت عشاءها، وبالرغم من شعورهما الشديد بالجوع، إلا أن حاجتهما إلى النوم كانت أشد، فارتمتا على الفراش كجثتين هامدتين.

كانت دقات المنبه من القوة والإصرار ما أيقظ الأم من سباتها العميق؛ لتنهض رغمًا عنها لتعد الإفطار الذي حدده الأطباء لابنتها. وبينما كانت "نغم" تقاوم الرغبة في النوم إلا أنها وأمام إصرار الأم قامت من فراشها متجهة إلى الحمام، والذي غادرته لتوها الجدة بعد أن توضأت لصلاة الضحى؛ لتجد طعامها وسلة الدواء بجانب سجادتها.  

بعد وجبة الإفطار والتي تباينت بين ثلاثتهن: قطعة من الجبن خالي الدسم وبيضة مسلوقة لـ"نغم"، وكوب من الحليب وبيضتان مسلوقتان للجدة، بينما اكتفت الأم والتي لم تتناول عشاءها كابنتها بفنجان من القهوة كي تطرد بقايا النوم المختبئة تحت جفنيها. ثم دارت بين ابنتها وبين الجدة تعطي كل واحدة منهما علاجها.

 حين دقت الساعة الثامنة، توجهت إلى حماتها تستأذنها في الخروج إلى العمل، وتسألها عما تحتاج إليه لتحضره معها، ثم طبعت قبلة على رأسها وصاحبتها ابنتها ودعوات الجدة إلى الباب، ثم منحت ابنتها قبلة على جبينها، ثم هبطت الدرج إلى الشارع. لم تكد تغادر منزلها حتى فوجئت بسيارة الإسعاف تقِلُّ ""أملًا" ابنة جارتهم إلى المستشفى. كانت "أمل" تعاني نفس المرض الذي تعانيه "نغم"، ولكنها لم تلقَ من العناية ما تلقاه "نغم". حين لم تتمكن من محادثة والدتها، اتصلت بها، علمت منها أن "أملًا" في مرحلة متأخرة من المرض، وأنه أغمي عليها بعد أن أفرغت كل ما في معدتها.

 في المساء، وأثناء العلاج الطبيعي عادت "نغم" وأمها "أملًا"، كانت تتلوى من شدة الآلام، وتهتف من أعماقها طلبًا للراحة الأبدية، كانت رائحة الموت تفوح منها، ووالدتها تقف عاجزة كل العجز، وكم ودت لو تفتديها بعمرها.

أثناء المحلول لم تنم "نغم" كعادتها، بل ظلت متيقظة واجمة، تطيل النظر إلى السقف، وتتمتم بكلمات، كأنما تقرأ من كتاب الغيب.

 مضى على هذا الموقف يومان قبل أن تستيقظ "نغم" وأمها على صوت الناعي ينعى "أملًا"؛ لتنخرط كلتاهما في بكاء مرير، تضاءلت بعده رغبة "نغم" في الحياة، وبلغت الأم من العنت معها مبلغًا في محاولة إقناعها بجدوى العلاج.

- أمي، وما جدوى العلاج؟

- لكي تشفي وتستعيدي صحتك.

- ألم تكن "أمل" تتناول علاجها، ومع ذلك ماتت.

- هذا أمر الله يا ابنتي. ليرحمها الله.

- (في يأس وانهزام) ليتني كنت مكانها.   

- (في ذهول) ماذا تقولين؟

- كم أحسدها على الموت! الموت راحة.

- راحة لك وعذاب لأمك وجدتك طول العمر.

- أنتما لا تشعران بالآلام وهي تمزق أحشائي.

- ولكن ـ والحمد لله ـ تتعافين مع العلاج.

- أتعافى؟ منذ سنوات لم أعش طفولتي. (يظهر الإعياء في صوتها) لم أهنأ براحتي ليلًا أو نهارًا يا أمي.

- (في أسى) حسبك يا ابنتي، فقد زدتِ أوجاعي.

كفت "نغم" عن الكلام، ثم فتحت فمها في فتور لاستقبال العلاج على مضض، وراحت تزدرده في غير مبالاة. بينما الأم تجول بخاطرها الأفكار القاتمة كأشباح سوداء. 

سارت الأيام التالية كئيبة ملولة، استسلمت "نغم" فيها للعزلة والصمت، وأهملت أمر علاجها، كانت تدس الحبوب أو تلقي بها وتدعي أنها تناولتها، مستبدلة بها بعض الأكلات الممنوعة عنها في خلسة بعيدًا عن أعين أمها وجدتها، مما أضر بصحتها.

 حتى كان ذلك اليوم الذي شاهدت فيه والدة زميلتها الراحلة "أمل"، جرت إليها، عانقتها، كانت الوالدة تضم إلى صدرها "دوسيه" ابنتها. 

- ما جدوى أن يبقى اسمها على قيد المدرسة، بينما هي تحت التراب.

اختبأت "نغم" في حضنها، وكأنها تهرب من شبح الموت الذي يطاردها. كان قلبها يخفق بشدة، وعيناها لا تتوقفان عن البكاء. حين عادت الأم من عملها، كانت "نغم" في استقبالها، لم تتمهل حتى تستبدل الأم ثيابها، فعاجلتها بقولها:

- أمي.

- نعم يا ابنتي.

- لا أريد أن أموت، ساعديني كي أشفى. أرجوك يا أمي!

لم تتمالك الأم نفسها؛ فاعتصرت ابنتها في حضن أذاب كل ما شعرتا به من تخاذل ويأس.

قصة "موت وحياة" بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent