فإن ظاهرة الانتحال من أهم الظواهر التي أخذت حيزا لا بأس به على خريطة النقد الأدبي ،قديمه ،وحديثه،ولو حاولنا بداية أن نضع إطارا تعريفا واضحا ؛ يحدد ملامح تلك الظاهرة ،لقلنا إن الانتحال له تعريفان لغوي ،واصطلاحي"
أولا :- الانتحال في اللغة:-
ورد مصطلح الانتحال في القاموس اللغوي
(1): انتحله وتنحله: أي ادعاه لنفسه وهو لغيره، ونحله القول كمنعه: أي نسبه إليه .
فأصل هذه الكلمة يدل على أن الانتحال: ادعاء الشيء للنفس وهو في الواقع للغير والنحل: النسبة للغير، ولم يبين صاحب القاموس هل النسبة إلى الغير مطلقا تكون نحلا أم لا يطلق عليها نحل إلا نسبت إلى الغير وهي ليست له
لكننا نرى في استعمال العرب وفي إطلاقهم هنا اللفظ سواء كان مجردا أو مزيدا أنه لا يطلق إلا حيث يراد الإنحراف بالنسبة وإضافة شيء لغير صاحبه، فيقال انتحل الشعر: أي ادعاه لنفسه وهو غير له ونحل هذا الشعر فلانا: أي ألصقه به وهو غير صاحبه .
و لم يكن الوضع والانتحال موجودا عند العرب في الجاهلية، وقصارى ما كان يقع بينهم أن يدعي بعضهم لنفسه شعرا ليس له وهو الذي يسمى بـ (الاجتلاب)،على حد قول الراجز :-
يا أيها الزاعم أني أجتلب
وأنني غير عضاهي أنتجب
فمعناه أنني أجتلب الشعر من غيري، فكأني إنما آخذ القشر لأدبغ به من عضاه غير عضاهي
والانتجاب: بفتح الجيم هو لحاؤه, أو هو"لدِّعاء ما للآخرين من صَنيع أَدَبيّ أَو فَنِّيّ، سَرِقة أَدبيَّة أَو فَنِّيَّة"
أو هو كما ورد في شمس العلوم الحميري المتوفى سنة ٥٧٣هجرية ،١١٧٧م ؛حيث عرف الانتحال :
" الجذر: نحل. الوزن: الِافْتِعَال.
ويقال :- انتحل الرجلُ شعرَ غيره: إِذا ادعاه لنفسه قال الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القوافي
بعد المشيب كفى ذاك عارا
و هذا ما يسمى بانتحال النص ،وما نحن بصدد دراسته ،والحديث عنه.
الانتحال اصطلاحا:-
يـقصد بالانتحال" أن ينسب شاعر أو راو ما شعرا مزيفا إلى شاعر آخر قديم ليس هذا الشعر له، وقد درس القدماء أمثال محمد بن سلام الجمحي قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وذكروا بعضا من مشاهير الرواة المنتحلين مثل خلف الأحمر وحماد الراوية وغيرهم" .
لم يكن من سبب في جاهلية العرب يبعثهم على وضع الشعر غير قائله وإرساله في الرواية على هذا الوجه، لن شعرائهم متوافرون ولأنهم لا يطلبون بالشعر إلا المحامد والمعاير
وقصارى ما يكون من ذلك أن يتزيد شاعرهم ويكذب فيه وعلى أن ذلك لا يكون إلا في الأخبار التي تكون في التاريخ لأن الشاعر موضع ثقة وهو مصدر رواية في العرب فإن أرسل القول أرسل معه التاريخ فيجريان معا .
و هذا التزيد هو الذي يسميه الرواة أكاذيب الشعراء، أما أن يكون في عرب الجاهلية من يصنع الشعر وينحله غيره فذلك ما لا نظنه ولما جاء الإسلام واندفع به العرب إلى الفتوح واشتغلوا عن الشعر بالجهاد والغزو جينا من الزمن، فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب روايته صنعت القبائل الأشعار .
و نرى أن الرواة بعضهم كان ثقة وأمينا يطمئن الناس إلى روايته ويثقون في صدقه وأمانته وبعضهم كما قالوا: كان جريئا كذوبا متحللا لا يقف دون زيفه ونحله حاجز
وقدأشار القدماء إلى قضية الانتحال مرارًا وتكرارًا، وحاولوا جاهدين أن ينفوا عنه الزيف وما وضعه الوُضَّاع متخذين إلى ذلك مقاييس كثيرة، وبلغ من حرصهم في هذا الباب أن أهمل ثقاتهم كل ما رُوي عن المتهمين أمثال حماد الراوية، وخلف الأحمر
وكان المفضل الضبي لهم بالمرصاد ،ومن بعده الأصمعي ،وتتابع الرواة الأثبات بعدهما يحققون ويمحصون في التراث.
والانتحال عموماً هو ظاهرة أدبية عامة لا تقتصر على أمة دون غيرها من الأمم ولا على جيل معينٍ من الأجيال، هذا وقد عرفها العرب كما عرفتها الأمم القديمة التي كان لها ناتج أدبي وعرفها العصر الجاهلي كما عرفها العصران الأموي والعباسي ،فالانتحال قضية من القضايا الكبرى في الشعر الجاهلي، ويـُقصد بالانتحال أن ينسب شاعر أو راوٍ ما شعراً مزيفاً إلى شاعر آخر جاهلي ليس هذا الشعر له في شيء، وقد درس القدماء أمثال محمد بن سلام الجمحي قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وذكروا بعضاً من مشاهير الرواة المنتحلين - كما أسلفت لك - وقد كان الشعر الجاهلي يُـتداول شفاهة قبل التوسع في استخدام الكتابة والتدوين مما يعني إمكانية حدوث التحريف عن طريق النسيان أو غيره ما دام التوثيق غير مكتوب في أصله ؛ حيث تناول الكثير من النقاد تلك القضية : قضية الانتحال بحثا ،ودرسا ،وتأصيلا ،وتفصيلا
ومن أهمهم في هذا الجانب ابن سلام الجمحي ؛ فقد دون في كتابه "طبقات فحول الشعراء" كثيرًا من ملاحظات أهل العلم والدراية في رواية الشعر القديم من أساتذة المدرسة البصرية التي ينتسب إليها، وأضاف إلى ذلك كثيرًا من ملاحظاته الشخصية.
وهذا الكتاب في الحقيقة هو أول كتاب أثار في إسهاب مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي، وقد ردها إلى عاملين: عامل القبائل التي كانت تتزيد في شعرها لتتزيد في مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين، يقول في كتابه: "لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار؛ فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار ".
ثم تحدث في فقه وعمق عن الشعر وأبان أنه فن يحتاج الى ذكاء وفطنة ودقة وحكمة، فقال: وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات" .
قال ابن سلام: يروي عن الشعبي بن خراش أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم الذي يقول:
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
وهذا غلط على الشعبي أو من الشعبي أو ابن خراش، أجمع أهل العلم على أن النابغة الذبياني لم يقل هذا .
نظر ابن سلام في الشعر الجاهلي وما أن تكون الرواية قد جرت عليه من العلل الموهنة والعوارض المشككة، وكان يرى أنه قد أسقط منه الكثير ضياعا أو اهمالا وزيد عليه وضعا وانتحالا، فهو لم يسلم من آفات النفس الإنسانية التي قد يستبد بها الإهمال أو يساورها العبث وقلت الإكتراث
و مما يدل على ذهاب الشعر وسفوطه قلة ما بأيدي الرواة المصححين، وأما الزيادة عند ابن سلام فإنه يتحدث فيها ويبينها في مواضع متفرقة من كتابه ويعزوها إلى عدة عوامل منها:
١- الشعر الذي أدخل على العلماء غفلة منهم .
٢- اختلاط الأمر على بعض الرواة .
٣- محاولة بعض العشائر أن يستكثروا من الأشعار، ويتزيدوا في الوقائع والأخبار.
٤ - كذب الرواة رغبة في الكسب واقتناء المال .
وقد لفتت هذه القضية ، قضيّة انتحال الشعر الجاهلي أنظار الباحثين المحدثين من العرب والمستشرقين ،من أمثال نولدكه ،و بروكلمان ،ومرجليوث
وبدأ النظر فيها من المستشرقين نولدكه سنة 1864م ، وتلاه ألوّرْدْ حين نشر دواوين الشعراء الستة الجاهليين :
امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعلقمة وعنترة ، فتشكك في صحّة الشعر الجاهلي عامة ، منتهياً إلى أنّ عدداً قليلاً من قصائد هؤلاء الشعراء يمكن التسليم بصحته ، مع ملاحظة أنّ شكّاً لا يزال يلازم هذه القصائد الصحيحة في ترتيب أبياتها وألفاظ كلّ منها.
إلا أننا للإنصاف نذكرأنّ "مرجليوث" يعدّ أكبر من أثاروا هذه القضية في كتاباته ؛ إذْ كتب فيها مقالاً مفصلاً نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية بعدد يولية سنة 1925م ، جعل عنوانه : (أصول الشعر العربي : The Origins of Arabic Poetry) .
من أبرز ما أثار مرجليوث في مقاله المذكور من زعم قوله :
"لو أنّ هذا الشعر صحيح لمثّل لنا لهجات القبائل المتعدّدة في الجاهلية كما مثل لنا الاختلافات بين لغة القبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية في الجنوب".
ولقد ردّ عليه الدكتور شوقي ضيف مدحضاً زعمه ، قائلاً :
"إنّ لغة القرآن الفصحى كانت سائدةً في الجاهلية وأنّ الشعراء منذ فاتحة هذا العصر كانوا ينظمون بها وأنها كانت لهجة قريش ، وسادت بأسباب دينية واقتصادية وسياسية ؛ فكان الشعراء ينظمون بها متخلين عن لهجاتهم المحلية على نحو ما يصنع شعراء العرب في عصرنا على اختلاف لهجات بلدانهم وأقاليمهم"
هذا ؛ ومن بين مزاعم مرجليوث في هذا الموضوع: أنّ النقوش المكتشفة للممالك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنية لا تدل على وجود أيّ نشاط شعري فيها ، فكيف أتيح لبدو غير متحضرين أنْ ينظموا هذا الشعر بينما لم ينظمه من تحضروا من أهل هذه الممالك ؟
ودحض بروينلش هذا الدليل ؛ لأنّ "نظم الشعر لا يرتبط بالحضارة ولا بالثقافة والظروف الاجتماعية ، وهناك فطريون أو بدائيون لهم شعر كثير مثل الإسكيمو".
وإذا تركنا المستشرقين إلى العرب المحدثين والمعاصرين وجدنا أديب العربية مصطفى صادق الرافعي يعرض هذه القضية : قضية الانتحال في الشعر الجاهلي عرضاً مفصّلاً في كتابه : "تاريخ آداب العرب" الذي نشره في سنة 1911م ، ولكنه لا يتجاوز في عرضه - غالباً سرد ما لاحظه القدماء .
وخلف مصطفى صادق الرافعي الدكتور طه حسين فدرس القضيّة دراسة مستفيضة في كتابه : "الشعر الجاهلي" الذي أحدث به رجّة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للردّ عليه. ولم يلبث أنْ ألّف مصنفه: "في الأدب الجاهلي" الذي نشره في سنة 1927م ، وفيه بسط القول في القضية بسطاً أكثر سعة وتفصيلاً .
ونتيجة بحثه في هذا الكتاب يلخصها بقوله:
"إنّ الكثرة المطلقة ممّا نسميه أدباً جاهليّاً ليست من الجاهلية في شيء ، وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام ، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين .
وأكاد أشك في أنّ ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدّاً ، لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء ، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي".
ومضى طه حسين يبسط الأسباب التي تدفع الباحث إلى الشك في الأدب الجاهلي واتهامه ، وردّها إلى أنّه لا يصور حياة الجاهليين الدينيّة والعقلية والسياسيّة والاقتصادية ، كما أنه لا يصوّر لغتهم وما كان فيها من اختلاف اللهجات ، وتباينها بلهجاتها من اللغة الحميرية.
ويقول الدكتور شوقي ضيف معقباً: "والحق أنّ الشعر الجاهلي فيه موضوع كثير ، غير أنّ ذلك لم يكن غائباً عن القدماء ، فقد عرضوه على نقد شديد ، تناولوا به رواته من جهة، وصيغه وألفاظه من جهة ثانية. أو بعبارة أخرى عرضوه على نقد داخلي وخارجي دقيق .
ومعنى ذلك أنهم أحاطوه بسياج محكم من التحري والتثبت ، فكان ينبغي أن لا يبالغ المحدثون من أمثال مرجليوث وطه حسين في الشك فيه مبالغة تنتهي إلى رفضه ، إنّما نشك حقّاً فيما يشك فيه القدماء ونرفضه ، أما ما وثقوه ورواه أثباتهم من مثل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبّي والأصمعي وأبي زيد فحريٌّ أنْ نقبله ما داموا قد أجمعوا على صحته. ومع ذلك ينبغي أنْ نخضعه للامتحان وأنْ نرفض بعض ما رووه على أسس علميّة منهجية لا لمجرّد الظن ، كأنْ يُرْوَى لشاعر شعرٌ لا يتصل بظروفه التاريخية ، أو تجري فيه أسماء مواضع بعيدة عن موطن قبيلته، أو يضاف إليه شعر إسلامي النزعة ، ونحو ذلك مما يجعلنا نلمس الوضع لمساً".
وبنظرة الباحث المدقق فإننا: لو قارنّا بين ما أثاره طه حسين وبعض المستشرقين أمثال مرجليوث ونولدكه ؛ لوجدنا أنّ هناك تقارباً بل اتفاقاً ملحوظاً ؛ وهذا مما يؤكّد لنا أنّ كلام طه حسين هو كلام هؤلاء المستشرقين إنْ لم يكن قد تشبع به بفضل دراسته على أيديهم وتتلمذه على كتبهم وأبحاثهم فضلاً عن ترجمته لكلامهم ونقله إلينا بلسانه العربيّ المبين ؟!
وترجع خطورة الأمر: أنّ هؤلاء المستشرقين وأذنابهم حين أثاروا هذه القضيّة كانوا يرمون إلى مرمى خبيث ؛ حيث عرفوا مكانة الشعر الجاهلي ، وأدركوا أنّ علماء المسلمين منذ الصدر الأول للإسلام قد شعروا بحاجتهم إلى الشعر العربيّ ؛ للاستعانة به في فتح مغاليق الألفاظ والأساليب الغريبة الموجودة في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ؛ فأكبوا عليه يروونه ويحفظونه ويدرسون أساليبه ومعانيه وما يدور فيه من ذكر لأيام العرب ووقائعهم .
ولولا هذا الباعث الديني ؛ لاندثر الشعر الجاهلي، ولم يصل إلينا منه شيء.
وهذه الحقيقة يقررهاأبو حاتم الرازي ؛ فيقول: "ولولا ما بالناس من حاجة إلى معرفة لغة العرب ، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن ، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة والتابعين ، والأئمة الماضين ؛ لبطل الشعر ، وانقرض ذكر الشعراء ، ولعضَّ الدهر على آثارهم ، ونسي الناس أيامهم" ، ومن أقوال ترجمان القرآن سيدنا عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - : "إذا سألتموني عن غريب القرآن ، فالتمسوه في الشعر ؛ فإن الشعر ديوان العرب".
من كل ماسبق ؛ أدرك المستشرقون هذه الحقيقة ؛ فعملوا على رفضه ؛ حتى يغلقوا علينا باباً من أهم الأبواب لفهم القرآن العظيم