قصة بعنوان "الصدع" للأديب د. سعيد المنزلاوي
كتب. سعيد محمد المنزلاوي
في حواره الأخير معي جعل يلقي باللائمة على أولئك الذين حشروا أنوفهم قهرًا على حد تعبيره في حياته وتلصصوا عليه وخبروا كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة بحجة أن يضعوا أيديهم على أسباب الشقاق، ويمسكوا بأذناب الأخطاء ليطرحوها أرضًا.
قلت له: ما أصفى نواياهم!
رمقني بنظرة حادة كادت أن ترديني لولا بقية من ود كان يدخرها لي؛ فخفض من نارية نظرته فتنفست الصعداء وازدرت ريقي واستجمعت قواي متخيرًا الكلمات حتى لا أدان مرة أخرى من دون قصد. وكدت أنطق لكني آثرت السلامة واكتفيت بأن قطبت جبيني واتسعت حدقة عيني؛ فقرأ التساؤل المشفر ثم أجاب، وقد امتزجت في نبرات صوته مرارة كانت تقطر من ثنايا الكلمات:
- هل يخلو بيت من المشكلات؟
- لا.
- المشكلة يا صديقي ليست في أسباب الشقاق، وإنما في أطرافها.
- تقصد المتنازعَيْن؟
- لا، لو خلُّوا بينهما، لذابت المشكلات كما يذوب الملح في الطعام.
- تقصد الأهل عندما ينحازون.
- بل أقصد المصلحين حينما يتدخلون فيفسدون.
(زاد جبيني تقطيبًا، فاسترسل)
- ليت الباب ظل موصدًا دونهم، ولكنهم تسللوا في خفية كالحية.
(سرح صديقي، وراح يخاطب نفسه)
- الحية التي أغرت حواء بأن تأكل من الشجرة، أغرتها مرة أخرى بأن تجتث تلك الشجرة، غير عابئة بما أثمرته خلال عشر سنوات من ابنتين لا ذنب لهما ولا جريرة.
تركت صديقي يحادث نفسه، وعدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم الذي جاءني فيه منهارًا، يشتكي إليَّ سوء معاملة زوجه له، بصوت شفه الوجد وأضناه الحنين:
- لقد أحببتها، ولكنها لم تشعرني بأهميتي يومًا.
- (في محاولة لإثنائه عن فكرته) أنت واهمٌ، لو لم تحبك، ما أنجبت منك.
- (مستنكرًا) أترى ذلك؟
- (بلهجة تأكيدية) نعم، أنتما فقط بحاجة إلى المزيد من الحوار بينكما.
(حدجني بنظرة هازئة، وطأطأ رأسه قائلًا، وكأنه يحدث نفسه:
- إنه حوارها مع ذويها.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشتكي فيها من تدخلات أهل زوجه في حياتهما بصورة ممجوجة، ولم أكن راضيًا عن ذلك السلوك من زوجه، والتي عرَّت زوجها بين ذويها، ناشرة بين الناس عيوبه، لم تراعِ ودًّا ولا معروفًا، مما أحدث الشقاق بينه وبين أهل زوجه. وشيء كهذا كفيل بأن يحيل حياتهما إلى جحيم. وبالرغم من ذلك كله، كان صابرًا، حاول كثيرًا لأْم الصدْع، ولكن دون جدوى، حتى خفت نبض الحب الذي كان في قلبه لها، ومع ذلك لم ينتقصها حقًّا من حقوقها عليه، كما لم يمنعها يومًا من زيارة ذويها، بالرغم من أنها في كل مرة تزورهم، كانت تأتي إليه بمزيد من البغض وكثير من التجنب والنفور. كانت تتفنن كيف تكيد له وتنكل به، لم تراعِ أنه زوج وأب لابنتيهما، منتهكة حرمة الجيران، والذين بات ارتفاع صوتهما عند النزاع، شيئًا معتادًا لديهم، ولكن حين يجاوز الحد المعتاد، ينطلق الجيران من قِبَل أنفسهم لرأب الصدع. ولم يكن يخلُ يوم من أولئك المتطوعين للإصلاح بينهما أو من يرشدونهما إلى بعض المصلحين.
كان واضحًا لكل ذي عينين ذلك البون الشاسع بينهما، كان التنافر بينهما كفيلًا بأن يقوض تلك العلاقة في مهدها، ولكن هيهات، كيف لمن تسول لهم أنفسهم أن يصلحوا، أن يكونوا سببًا في تقويض البنيان، وليتهم سعوا للتقويض، فربما كان فيه الخير من حيث لم يريدوا. وكانوا يرددون دومًا على رأسه، وكأنها رقية أو تعويذة:
- نحن لا نتدخل في الطلاق.
- الصلح خير.
- تعالَ على نفسك، تحَملْ.
- انظر لابنتيك. ما مصيرهما لو افترقتما؟
كانت بغية كل واحد منهما أن يُكتب عند الناس مصلحًا، ولكن مع كل محاولة للإصلاح، كانت رقعة الشقاق تتسع، وكانت زيادة النفور بينهما تنعكس على الطفلتين، فلا تشعران بالأمان بين والدين متناحرين، وحين يضيع الأمان، فليس ثمة داع للحياة.
دنا مني صديقي بعد أن انسلخ من صمته، وفجر بين يديَّ تلك الكلمة:
- سأطلقها.
تفجرت كلمته محدثة دويًّا أخرجني قهرًا من خيالاتي، فتحت فمي كي أنطق، عجزت الكلمات أن ترتسم على شفتي.
- (بإصرار) نعم، سأطلقها، هذا هو الحل.
- (في محاولة لإثنائه) تمهلْ، هل نسيت ابنتيك؟
- (في دهشة، كمن تذكر شيئًا كان قد نسيه) ابنتاي!
تخدرت أطرافه؛ فهوى فوق أريكته.
لم تكن الطفلتان اللتان ربطتا بينه وبين زوجه بالشيء الهين، فمن أجلهما تحمل زوجة مبغضة، وغض الطرف عن إهاناتها له وطعنها في رجولته، لم يكن عابئًا بشيء إلا أن تتربى ابنتاه بين أب وأم.
بعد أن استعاد صديقي وعيه، هتف من أعماقه:
- ابنتاي! (ثم في أسى ومرارة) إنهما تبغضانني، لقد أرضعتْهما بغضي، وربتهما على النفور مني، حتى إنني لم أعد أسمع منهما كلمة (بابا).
- ولكنهما ابنتاك!
لكمته الكلمة، أوجعت قلبه وأدمته.
تذكرت حينها ما قاله لي واحد من أولئك الذي فرضوا أنفسهم من أجل إصلاح ذات البين، حين سألته:
- هل تجد لهذه المساعي من أثر؟
- (أجابني دون تفكير) لا، إنهما على طرفي نقيض.
- فلم إذن تستنزفون أعمارهما دون طائل؟
- (تلعثم قبل يقول) الصلح خير.
دون أن أشعر ردَّدت كلمة "الصلح خير" بصوت مسموع، نبَّه إلى صديقي؛ فرمقني بنظرة غاضبة:
- بل الفراق خير.
كانت شفتاه تحتكان بشدة مع بعض الحروف. وكان يتصبب عرقًا، فناولته كوبًا من الماء، أخفاه في أحشائه، لكنه خرج مزيدًا من العرق. ناولته كوبًا آخر، حين شعر بالرطوبة في حلقه؛ التفت نحوي بوجه جامد يخلو من أي انطباع:
- ليتهم حين أدركوا استحالة العيش بيننا، سعوا لتقويض العُش قبل أن تتفاقم الأزمة بيننا.
لم أجد ما أرد به عليه. دسَّ في يدي ورقة من جريدة، ومضى دون أن يلتفت وراءه. كانت الورقة مطوية وبالية، لكنَّ العنوان كان بارزًا:
"زوج يقتل ابنه وزوجه ووالديها وأخاها"
كانت تفاصيل الحادث مؤلمة، حين يشهد ابن على والده، وتنتهك الزوجة وأهلها حرمة بيتهما وحياتهما.
كانت رسالة صديقي لي واضحة، إنه يخشى من مصير كهذا؛ فأراد أن ينجو بنفسه قبل أن يقع في براثن الجريمة.
- طلقْها،
طلقْها.
هتفت بها دون أن أشعر، فتردد صداها في جنبات البهو الخالي:
- طلقْها،
طلقْها.