إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

ثنائية الحضور والغياب في قصيدة "صرخة" للشاعر الأستاذ الدكتور عبد الباسط عطايا .دراسةللأستاذ الدكتور. سعيد محمد المنزلاوي

 ثنائية الحضور والغياب في قصيدة "صرخة" للشاعر الأستاذ الدكتور عبد الباسط عطايا . دراسة للأستاذ الدكتور. سعيد محمد المنزلاوي



عرض. طارق أبوحطب 


 تتكون القصيدة من سبعة أبيات، فهي قصيدة سباعية، يقول ابن رشيق: "إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة" (العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق، ط5، 1981م، ج1، ص188).


 وقلة عدد الأبيات يجعلها دفقة شعورية حبلى بالمعاني المكثفة، ويزيد من تماسك النص وتلاحم الأبيات، يدفعك الصدر إلى العجز، والذي يقودك بدوره إلى البيت التالي ما يجعل القصيدة في عدو مستمر فلا يكتمل المعنى إلا في نهاية النص فكأنما القصيدة بيت واحد. 


 ونلج للنص من عتبة العنوان، والذي اختزله الشاعر في لفظة واحدة هي "صرخة"، وهي اسم مرة من صرخ، وليس المقصود وقوع الصرخة مرة واحدة، فالعنوان هنا يتفجر عن جملة من الإيحاءات والمعاني كالاستغاثة والصياح الشديد، فهي صرخة تعوز إلى مَن يصرِخها، واستغاثة تبحث عمن يغيثها، كما تستدعي الصرخة الآنية أختها الغابرة، والتي وجدت في المعتصم إغاثتها، فما بالها اليوم تذهب أدراج الرياح سدى! إن القصيدة تخبر عن حاضر مخز وواقع أليم.


 وقد نهضت سردية القصيدة على عنصر الحوار، حيث استهلها بخطابه للفرَس، والفرَس جماعته الخيل، وذكره الحصان، وتدور لفظة "حصان" بين القوة والمنعة، رامزًا به للشجاعة والبسالة والقتال، مستعرضًا التاريخ العريض لبطولات الأقدمين، في حروبهم الشجاعة على صهوة جيادهم، والتي كانت تشاركهم ميدان القتال وتتلقى الطعان والنبال ولا تفر. ولكن هذه الصورة المشرقة تورات وأظلمت صفحتها:

(قل لي بربك من أهانك

 وأضاع بين القوم شانك


تبكي بدمع لا يرى

 مجدا    تولى   أو زمانك


أو فارسا    هجر    الوغى

 أو باع   للأعدا أمانك)


إن البيت الثاني يستدعي صدره قول عنترة في ميميته:

(فازور من وقع القنا بلبانه

 وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ


لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

 ولكان لو علم الكلام مكلِّمِي) 


 (شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1992، ص183)

ثمة فارق بين فرس عنترة وفرس الشاعر، الفرس الأول خاض المعارك وأصابته النبال، فهو يبكي من أثر الطعان، والفرس الثاني عطل عن خوض غمار المعارك، فهو يبكي مجدًا تولى، وينعى فارسه الذي جبن وخان وباع، إنه جواد بلا فارس.

 وفي محاولة لعودة الوعي وإيقاظ الهمم، شقت الصرخة من فوق المنابر ذلك الصمت المهين:

(وعلى    المنابر صرخة

 يا فارسًا اسمع   حصانك)


 إنه يستنهض الهمم من رقدتها والفوارس من كبوتها، إنه يوقظ فينا الفروسية الحقة، التي غابت وطال غيابها، حتى أمسى الغياب قيدًا وسجنًا:

(حرر غيابك واستعد

 وأعد إلى الدنيا بيانك


من صحن أزهرك الذي

 يشكو إلى الحلبي آنك)


 إن الشاعر لا يكتفي بالحضور في ميدان القتال، ولكن ميدان الكلمة له من الفاعلية كما للضرب بالسيف من فاعلية. ويؤكد الشاعر على حضور الأزهر جامعًا وجامعة؛ ليتبوأ قيادة الجماهير كسابق عهده واستعادته لدوره بجهاد الكلمة، مشيرًا في لمحة خاطفة بارقة لواحد ممن تعلموا في الأزهر، وهو "سلمان الحلبي". (سلمان الحلبي (1777 – 1800م)، ولد بحلب وتوفي بمصر، تعلم في الأزهر الشريف، اغتال الجنرال كليبر، وحكم عليه بالإعدام.(سليمان الحلبي – ويكيبديا)).

محيلًا عن طريق الاسم وحده إلى سيرته كطالب أزهري ونضاله وجهاده للمستعمر واغتياله للجنرال كليبر. وكأنه يشير من وراء حجاب إلى صمود الفلسطينيين وجهادهم للمحتل الغاشم.

         كما أن لفظة "آنك" والتي اختتم بها الشاعر قصيدته لتشي بالهوة السحيقة بين ماضي الأسلاف وحاضر الأحفاد، وهي وإن جاءت استجابة للأحداث الجارية في غزة المحتلة. (انتفاضة فلسطين وطوفان الأقصى أكتوبر 2023م وسط تخاذل العالم العربي والإسلامي، ودعم الدول الغربية للعدو الصهيوني ضد شعب فلسطين الأعزل(. 

 إلا أن القصيدة تتجاوز آنية الحدث، ومحدودية المناسبة، لتكون صرخة تتفجر في كل زمان ومكان لمواجهة الظلم والطغيان ومدافعة الاحتلال وكشف الزيف والخذلان. 

 إن الصرخة ـ هنا ـ أشبه ما تكون بالندبة، فهي رثاء لعهد تولى بفوارسه ورجاله ومواقفه الخالدة، كما أنها دمعة أسيانة على حاضر يفتقر إلى الفروسية والنخوة ونصرة الضعفاء.

 إن القصيدة قائمة على ثنائية الحضور والغياب من خلال بنية التضاد، بين عهدين وزمنين بما يمثلانه من قيم ومثل وأخلاق، مما يزيد من درامية النص ويزيد من فاعلية الرسالة التي يحملها النص في أحشائه. ومن البنى المفارقية، قوله:

(أو فارسا    هجر    الوغى

 أو باع   للأعدا أمانك)


 فلفظة فارس تدور بين الحضور والغياب، فالفارس موقعه أن يشهد الوغى لا أن يتخلف عنه ويترك موقعه في ميدان المعركة، والاستجارة لا تكون للأعداء، ولا يمكن أن تتلبس بالغدر، أما وقد بيع الأمانُ فقد انتقل من الحضور إلى الغياب، مجسدًا بتلك المفارقات المتتالية عقدة الحدث ودراميته.

 ومن المفارقات الطريفة قوله:

- (تبكي بدمع لا يرى)، فالدمع لا يكون دمعًا إلا إذا سح وسال من العين، فهو مما يدرك بالبصر، وتأتي المفارقة في وجود دمع ونفي رؤيته، وما بين الإثبات والنفي، الحضور والغياب، مفارقة تحيل الدمع على الحزن الدفين، والذي يحتجب عن العيون، فالخيول لها مع رقة المشاعر شموخ وعزة وإباء. 

 كما أن النص غني بالمفردات والتراكيب الدالة على الحواس، فنجد الصور السمعية في قوله:

- تبكي.

- وعلى المنابر صرخة.

 ومع التقارب الدلالي للبكاء وللصراخ، إلى أن الخفوت في الأول والصخب في الثاني، يجعل الصورة السمعية تتحرك الموجة انخفاضًا وارتفاعًا.

 وتبرز الصور البصرية في قوله:

- أضاع بين القوم شانك.

- يشكو إلى الحلبي آنك.

 وهي صور يتعانق في أولاها المكان، وفي ثانيها الزمان، وهما معًا يشكلان رقعة الحدث.

 كما تكثر الصور الدالة على الحركة، كقوله:

- هجر الوغى.

- حرر غيابك.

 مما يحدث في جنبات النص حركة وجلبة لها وقع الحوافر وصوت الصراخ.

كما تتراسل الحواس وتتبادل؛ كما في قوله:

 - (مضغ القصيد كتبغه)، فالمضع يكون للطعام، وللشيء المحسوس، أمام القصيدة فهي نص مكتوب أو مقروء، فعدل عن إدراكها بحاستي السمع أو البصر إلى أن يلوكها في فمه كالمضغة، وفي تشبيه القصيدة بالتبغ، وهو نبات حَوْليّ مُرّ الطعم من الفصيلة الباذنجانيّة، يُجَفَّف ثم يُتعاطى تدخينًا وسَعُوطًا ومَضْغًا، ويكثر استعماله في صناعة السيجار، انتقاص لشأن الكلمة، وفقدانها الإيحاء والتأثير. 

 وتتعانق الحواس مع التجسيد في قوله:

- مجدًا تولى.

- على المنابر صرخة.

 وتتعاقب الأساليب في النص بين الإنشائية والخبرية، فمن الأساليب الإنشائية قوله:

- قل لي.

- من أهانك؟

- أعد إلى الدنيا بيانك.

ومن الأساليب الخبرية قوله:

- هجر الوغى.

- باع للأعدا أمانك.

 وهذا التنوع بين الأساليب يثري النص ويضفي عليه حركة وانسجامًا.

 كما تناوب الزمن بأجزائه الثلاثة مطوقًا النص من مبدئه إلى منتهاه، في تجربة تدور رحاها عبر الزمن: ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فيرتكز الحاضر بآنية الحدث، بين ماض تولى يحاول الشاعر بعثه من الرفات، ومستقبل مأمول يرجو الشاعر تحققه ومجيئه. فالحصان يبكي مجدًا تولى، يتمنى الشاعر لو يسمع الفارسُ نداءَه فيحررُ غيابه.

 وقد أحسن الشاعر في صب تجربته في قالب من مجزوء بحر الكامل المرفل؛ فالكامل بما عرف عنه من الحركة والجلبة مناسب لحركة الخيل وركضها، ويأتي الخبن في بعض التفعيلات؛ ليزيد من السكون والذي يحكي تلك الحال من الرقود والركود.

ثنائية الحضور والغياب في قصيدة "صرخة" للشاعر الأستاذ الدكتور عبد الباسط عطايا .دراسةللأستاذ الدكتور. سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent