قصة "العاقبة" بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
كتب: سعيد المنزلاوي
أيقظت سمر والدتها، والتي كانت غارقة في سبات عميق، لم تكن ترتاح أو تستكين طيلة النهار. ما بين العمل في روضة الأطفال، والعودة بعد الظهر لطهي الطعام وإعداد العشاء وغسل الأواني والثياب وتنظيف المنزل وترتيبه. كانت تنتهي بعد العاشرة مساء، تشاهد المسلسل التركي المفضل لديها، ثم تخلد إلى النوم.
لم يكن قد مضى على نومها أكثر من ساعة حين أيقظتها سمر؛ لتخبرها أن أخاها الصغير أيمن لم يرجع إلى البيت حتى الآن. كان الليل قد انتصف، وفي الصباح سيذهب لأداء امتحان الشهادة الإعدادية. طمأنتها الأم:
- لقد أخبرني بأنه يستذكر دروسه مع صديقه حسام ككل يوم.
ولكن ابنتها أخبرتها بأن هاتفه مغلق، وأنها اتصلت بوالدة صديقه حسام، فنفت مجيئه للاستذكار مع ابنها منذ بدأت الامتحانات.
بهتت الأم لما سمعته، ونفضت عنها غطاءها، في عجلة تناولت هاتفها، عبثًا حاولت الاتصال بابنها، كان هاتفه مغلقًا بالفعل. تحققت من والدة حسام من عدم مجيئه للاستذكار مع ولدها، كما كان يدعى لها، مما زاد من قلقها على ولدها.
- إذن أين يذهب كل ليلة ويعود إذا انتصف الليل. ولماذا تأخر هذه الليلة؟ ربما ذهب للاستذكار مع زميل آخر؟
راحت في هذه الساعة المتأخرة تتصل بمن تعرفه من زملائه، الجميع أنكروا رؤيته.
- أين يكون قد ذهب إذن؟ لابد أنه.....
ولكنها استبعدت أن يكون قد ذهب إليه، أو هكذا تمنت، وإلا لباءت جميع محاولاتها لتثنيته عنه بالفشل.
مضت ساعة أخرى ولمَّا يأتِ بعد. راحت تحادث نفسها:
- ماذا أصنع؟ هل أنزل بنفسي في هذه الساعة المتأخرة من الليل للبحث عن ابني؟
- إنني امرأة، وهذا دور الرجل، فلأتصل بوالده؛ ليقوم هو بهذه المهمة.
- نعم، سأتصل به، أليس هو ابنه، وهو مسئول عنه؟ فليتحمل همه معي.
- كما أنه ربما يكون عنده في هذا الوقت.
- ليته يكون عنده ..
- لا ..
- المهم أطمئن على ولدي.
شتى الصراعات والظنون كانت تدور برأس الأم، قبل أن تطلب من ابنتها الاتصال بوالدها.
كان الأب قد عاد لتوه من العمل؛ حيث يعمل في الفترة المسائية في إحدى المصانع، ولم يكد يرتاح، حتى داهمه خبر تغيب ولده. في عجلة ارتدى ثيابه وخرج لا يدري إلى أين يذهب للبحث عنه، ولا من أين يبتدئ. كان يدور بعينيه على المقاهي؛ يتفرس وجوه روادها؛ لعله يجده بينهم، ذهب إلى مركز الشباب، النادي الاجتماعي، الحدائق، تواصل مع أقربائه، ممن يظن أنه ربما ذهب إليهم. باء كل ذلك بالفشل، على وجل ولج إلى المستشفى، سأل عنه في الاستعلامات والاستقبال، حمد الله أنه لم يكن من المصابين، ولكن القلق ساوره، أن يكون قد اختطف، أو قبضت عليه الشرطة، استبعد الاحتمال الثاني، وجعل يلهج بالدعاء ألا يكون قد مسه مكروه.
لم يكن السيد نعمان هو وحده الذي يبحث عن ولده أيمن كان الأهل والجيران قد نشروا أنفسهم في كل مكان، كانوا كمن يبحثون عن إبرة في كومة قش. كان الوقت يمر ثقيلًا كسلحفاة كسيحة، الثواني جمرات والظنون ألسنة من اللهب تشتعل في جوانحه. ومما زاد من سوداوية الظنون، أن هاتف أيمن مغلق، مما قطع كل وسيلة للتواصل معه.
خلال ساعتين، اتصل بزوجه أكثر من عشر مرات؛ يسأل هل عاد ابنهما إلى المنزل؟ كل واحد منهما كان ينتظر من الآخر أن يجيبه بأنه قد عثر عليه.
في وقفة الأم المنكسرة في العراء، لمحته عائدًا من بعيد. كان الفجر قد اقترب، وكان أيمن يسير في تؤدة، وكأنه عجوز في السبعين من عمره، لم يكد يصل إلى أمه حتى كان أبوه قد سبقه إليها من الجانب الآخر. دهش عندما وجد والداه معًا. ابتدره والداه بالسؤال المتوقع:
- أين كنت؟
- (في برودة لوح من الثلج) كنت أشاهد المباراة في الصالة الداخلية لمركز الشباب.
في حنق سألته الأم:
- ولماذا أغلقت هاتفك؟
- (في لا مبالاة مستفزة) حتى لا يزعجني أحد.
في غيظ شديد وجه الأب كلامه للأم:
- هل هذا كل ما يعنيك؟ أنه أغلق هاتفه.
ثم التفت بكليته نحوه ابنه، وخفض من حدة صوته:
- أليس عندك امتحان هذا الصباح؟
(في افتعال) أجابت الأم بعد أن وخزت ابنها كي لا ينطق:
- لقد ذاكر كل دروسه، قبل أن يخرج.
كانت تعلم أنها لا تقول الحقيقة، ولكنها لا تريد أن تظهر أمام مطلقها بالمظهر الضعيف أو المتخاذل. حدجها نعمان بنظرة عاتبة، فهمتها؛ فنكست رأسها. اقترب بعدها نعمان من ولده، احتضنه، شعر أنه يعانق قطعة من الخشب اليابس، كان حضن ابنه يخلو من أية مشاعر دافئة، حتى إنه انفلت من ذراعي والده كمن لدغه عقرب.
كانت سمر في الشرفة تتشوف عودة أخيها، عندما سرى إليها صوته من بعيد في هدأة الليل، جرت نحو الصوت، لما لمحت والدها، أسرعت نحوه، كأنما كانت تبحث عنه، اختبأت في حضنه، وراحت تبكي.
سار جمعهم نحو المنزل ككتلتين منفصلتين؛ التصقت سمر بأبيها، وتأبط أيمن ذراع أمه. أغلق عليهم الباب لأول مرة بعد سبع سنوات من الانفصال، دار نعمان بعينيه في جنبات المنزل، كان كما تركه آخر مرة، لم يتغير فيه شيء سوى الطلاء، والذي كان باهتًا قد تعاقبت عليه السنون. شعر بالبرودة تسري في أركانه، غاب عنه الدفء الذي كان يعمره يومًا ما، تداعت عليه الذكريات المؤلمة، شعر بوطأتها تضغط ضلوعه، فتحبس عنه النَّفَس. بصوت لاهث راح يوجه رسالة لمطلقته:
- لا تبعدي بنيك عن أبيهم، كي لا تجني المزيد من المعاناة والألم.
- (لفها الصمت والوجوم ولم ترد).
التفت إلى ابنه في حنوٍ:
- وأنت يا أيمن، نؤمل فيك أن تكون رجل البيت، ولكن لا يعني هذا أن تنسى أنَّ لك أبًا.
- (أدار أيمن عينيه بعيدًا عن والده، ولم ينطق)
شعر نعمان بغربته داخل جدران المنزل القاتمة، نظر لابنته الأثيرة؛ فتبعته إلى الباب، طوقها بذراعه، وقبَّل رأسها، وهمس في أذنيها:
- لا توصدي الباب دوني.
فهمت سمر رسالة أبيها، فطأطأت رأسها علامة الإيجاب، وانحدرت من عينيها الدموع حارقة. كانت تود لو طال الحضن أكثر من ذلك؛ حتى تشعر بالأمان الذي حرمت منه دون ذنب منها أو جريرة.
مرت الأيام التالية ثقيلة، لا طعم لها ولا لون، الجميع كانوا يترقبون إعلان النتيجة. كان أيمن متفوقًا كأخته سمر، فما باله انحدر مستواه إلى أن رسب. نزل الخبر على الأم كالصاعقة، لم تكن تخشى من فشل ولدها بقدر خشيتها من نظرة شماتة من المحيطين بها، كانت تتوجس خوفًا من لوم وتأنيب مطلقها، واتهامه لها بالفشل في تربية أولاده.
أكثر مَن صدمت بالخبر كانت سمر، والتي تكبر أخاها بثلاث سنوات، كانت تنتظر منه أن يكون سندها في الحياة، بعد أن فرقت الأيام بينهم وبين أبيهم. تذكرت أيامًا كانوا ينعمون فيها بالدفء، لا شك أنه كانت هناك بعض المنغصات حين كان يتناهى إلى مسامعها تلك المناوشات الحادة بين والديها، والتي يلزم الأب في أغلبها الصمت، أو يكتفي بمغادرة البيت؛ حتى تهدأ الأجواء، ولم تكد النار تخمد جذوتها، حتى تشتعل من جديد وهي أشد توهجًا وسعيرًا. كانت تشعر بأن ثمة انفصال بين والديها، بالرغم من أنه يغلق عليهما باب واحد، كانت الهوة تتسع بينهما يومًا بعد يوم، وكان شبح الطلاق يحوم حول البيت. يومها كانت سنها صغيرة، فلم تدرك من حقيقة الصراع بين والديها إلا ما يسرده أمامها الآخرون من الأهل والجيران والمصلحين، فلم يكن منزلهم يخلو يومًا من أحد هؤلاء. حتى جاء يوم الطلاق، لم تكن تدرك وقتها أنها ستطلق هي وأخوها من أبيهم، كما طلقت أمهما، ولكن القرار جاء من قِبل الأم، والتي لم ترتضي الانكسار لها وحدها، وإنما أشركت ولديها هذه المرارة التي اكتوى بها كبدها. فبذلت جهودًا مضنية لتشويه صورة نعمان لدى أولاده، كما أفلحت في تشويه صورته لدى كل المحيطين بها. كانت تريد الانتقام منه بحرمانه من ابنه وابنته. ربما أفلحت في صرفهما عنه، لكنها لم تفلح في تربيتهما بمفردها؛ لتدفع سمر وأخوها الثمن باهظًا. فترفض الأم أن تواصل ابنتها تعليمها الثانوي العام، وترغمها أن تلتحق بالتعليم الثانوي الفني؛ لتقضي بذلك على حلم والدها في أن تصبح ابنته طبيبة، كما توقع لها وتمنى. وها هو أيمن يستجيب للعب وينصرف بكليته عن التعليم بعد أن كان من المتفوقين.
بعد مرور تلك السنوات السبعة العجاف، أدركت سمر حقيقة الموقف برمته، فراحت تعاتب والدتها، وتحملها وحدها تبعات ما جرى.
- أمي، هل يرضيك ما وصل إليه حالنا؟
- (في استنكار) وما الذي لا يعجبك في حالنا؟
- فشل أيمن في التعليم، وحرماني من حلمي، بالرغم من تفوقي.
- أيمن رجل، وأنت مصيرك إلى الزواج.
- (بسخرية) الزواج! ومَن هذا الذي يتقدم لفتاة، ليس لها من مؤهلات سوى أنَّ أمها نجحت في طرد أبيها من حياتها، بعد أن شوهت صورته أمام أولاده وزيفت الحقائق.
لم تتحمل الأم ما قالته ابنتها، فصفعتها على وجهها، فسقط قرطها، فانحنت لتلتقطه، ثم حدجت أمها بعيون اغتسلت بالدموع:
- ليتك تحملتِ والدي.. ليتك لم تطلبي الطلاق..
- لقد كان أبوك ....
- (قاطعتها) لقد كان أبي نِعْم الأب، كما كان معك نِعْم الزوج، ولكنكِ كنت تبغضينه. كنت تطمحين إلى زوج غني، وكان أبي غنيًّا، ولكن في مشاعره.
- (بسخرية) مشاعر! هل أطعمكم مشاعر؟ هل أعلمكم بالمشاعر؟ هل أزوجك وأخاك بالمشاعر؟ هل ...
- (قاطعتها) ولكنك الآن، بلا مال، وبلا مشاعر.
- (وخزتها الكلمة)، همت أن تنطق، فأطبقت فمها دون كلام.
شعرت بالعري أمام ابنتها، فراحت تستر ما انكشف من سوأتها، لكنَّ رقعة العري راحت تتسع من جديد، فأسرعت إلى حجرتها هربًا من عيني ابنتها، أوصدت الباب خلفها، كانت تبحث عن مخبأ تتوارى فيه، بدت أمام المرآة عارية، فتحت دولاب ملابسها، لبست أكثر من ثوب، ولا تزال عارية، شعرت بالمرآة عيونًا تحملق فيها، تجردها من ثيابها. أخفت وجهها بكلتا يديها، ازداد شعورها بالعري، دنت من المرآة، هشمتها بقبضتي يديها، ثم ندت عنها صرخة عالية، جرت على إثرها سمر، كانت الدماء تنزف من كلتا يديها، خبأت نفسها في ابنتها، فتخضبتا بالدماء. بدت صورتهما معا في المرآة المهشمة كمسخ مشوه غابت ملامحه خلف الدماء.قصة "العاقبة" بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
كتب: سعيد المنزلاوي
أيقظت سمر والدتها، والتي كانت غارقة في سبات عميق، لم تكن ترتاح أو تستكين طيلة النهار. ما بين العمل في روضة الأطفال، والعودة بعد الظهر لطهي الطعام وإعداد العشاء وغسل الأواني والثياب وتنظيف المنزل وترتيبه. كانت تنتهي بعد العاشرة مساء، تشاهد المسلسل التركي المفضل لديها، ثم تخلد إلى النوم.
لم يكن قد مضى على نومها أكثر من ساعة حين أيقظتها سمر؛ لتخبرها أن أخاها الصغير أيمن لم يرجع إلى البيت حتى الآن. كان الليل قد انتصف، وفي الصباح سيذهب لأداء امتحان الشهادة الإعدادية. طمأنتها الأم:
- لقد أخبرني بأنه يستذكر دروسه مع صديقه حسام ككل يوم.
ولكن ابنتها أخبرتها بأن هاتفه مغلق، وأنها اتصلت بوالدة صديقه حسام، فنفت مجيئه للاستذكار مع ابنها منذ بدأت الامتحانات.
بهتت الأم لما سمعته، ونفضت عنها غطاءها، في عجلة تناولت هاتفها، عبثًا حاولت الاتصال بابنها، كان هاتفه مغلقًا بالفعل. تحققت من والدة حسام من عدم مجيئه للاستذكار مع ولدها، كما كان يدعى لها، مما زاد من قلقها على ولدها.
- إذن أين يذهب كل ليلة ويعود إذا انتصف الليل. ولماذا تأخر هذه الليلة؟ ربما ذهب للاستذكار مع زميل آخر؟
راحت في هذه الساعة المتأخرة تتصل بمن تعرفه من زملائه، الجميع أنكروا رؤيته.
- أين يكون قد ذهب إذن؟ لابد أنه.....
ولكنها استبعدت أن يكون قد ذهب إليه، أو هكذا تمنت، وإلا لباءت جميع محاولاتها لتثنيته عنه بالفشل.
مضت ساعة أخرى ولمَّا يأتِ بعد. راحت تحادث نفسها:
- ماذا أصنع؟ هل أنزل بنفسي في هذه الساعة المتأخرة من الليل للبحث عن ابني؟
- إنني امرأة، وهذا دور الرجل، فلأتصل بوالده؛ ليقوم هو بهذه المهمة.
- نعم، سأتصل به، أليس هو ابنه، وهو مسئول عنه؟ فليتحمل همه معي.
- كما أنه ربما يكون عنده في هذا الوقت.
- ليته يكون عنده ..
- لا ..
- المهم أطمئن على ولدي.
شتى الصراعات والظنون كانت تدور برأس الأم، قبل أن تطلب من ابنتها الاتصال بوالدها.
كان الأب قد عاد لتوه من العمل؛ حيث يعمل في الفترة المسائية في إحدى المصانع، ولم يكد يرتاح، حتى داهمه خبر تغيب ولده. في عجلة ارتدى ثيابه وخرج لا يدري إلى أين يذهب للبحث عنه، ولا من أين يبتدئ. كان يدور بعينيه على المقاهي؛ يتفرس وجوه روادها؛ لعله يجده بينهم، ذهب إلى مركز الشباب، النادي الاجتماعي، الحدائق، تواصل مع أقربائه، ممن يظن أنه ربما ذهب إليهم. باء كل ذلك بالفشل، على وجل ولج إلى المستشفى، سأل عنه في الاستعلامات والاستقبال، حمد الله أنه لم يكن من المصابين، ولكن القلق ساوره، أن يكون قد اختطف، أو قبضت عليه الشرطة، استبعد الاحتمال الثاني، وجعل يلهج بالدعاء ألا يكون قد مسه مكروه.
لم يكن السيد نعمان هو وحده الذي يبحث عن ولده أيمن كان الأهل والجيران قد نشروا أنفسهم في كل مكان، كانوا كمن يبحثون عن إبرة في كومة قش. كان الوقت يمر ثقيلًا كسلحفاة كسيحة، الثواني جمرات والظنون ألسنة من اللهب تشتعل في جوانحه. ومما زاد من سوداوية الظنون، أن هاتف أيمن مغلق، مما قطع كل وسيلة للتواصل معه.
خلال ساعتين، اتصل بزوجه أكثر من عشر مرات؛ يسأل هل عاد ابنهما إلى المنزل؟ كل واحد منهما كان ينتظر من الآخر أن يجيبه بأنه قد عثر عليه.
في وقفة الأم المنكسرة في العراء، لمحته عائدًا من بعيد. كان الفجر قد اقترب، وكان أيمن يسير في تؤدة، وكأنه عجوز في السبعين من عمره، لم يكد يصل إلى أمه حتى كان أبوه قد سبقه إليها من الجانب الآخر. دهش عندما وجد والداه معًا. ابتدره والداه بالسؤال المتوقع:
- أين كنت؟
- (في برودة لوح من الثلج) كنت أشاهد المباراة في الصالة الداخلية لمركز الشباب.
في حنق سألته الأم:
- ولماذا أغلقت هاتفك؟
- (في لا مبالاة مستفزة) حتى لا يزعجني أحد.
في غيظ شديد وجه الأب كلامه للأم:
- هل هذا كل ما يعنيك؟ أنه أغلق هاتفه.
ثم التفت بكليته نحوه ابنه، وخفض من حدة صوته:
- أليس عندك امتحان هذا الصباح؟
(في افتعال) أجابت الأم بعد أن وخزت ابنها كي لا ينطق:
- لقد ذاكر كل دروسه، قبل أن يخرج.
كانت تعلم أنها لا تقول الحقيقة، ولكنها لا تريد أن تظهر أمام مطلقها بالمظهر الضعيف أو المتخاذل. حدجها نعمان بنظرة عاتبة، فهمتها؛ فنكست رأسها. اقترب بعدها نعمان من ولده، احتضنه، شعر أنه يعانق قطعة من الخشب اليابس، كان حضن ابنه يخلو من أية مشاعر دافئة، حتى إنه انفلت من ذراعي والده كمن لدغه عقرب.
كانت سمر في الشرفة تتشوف عودة أخيها، عندما سرى إليها صوته من بعيد في هدأة الليل، جرت نحو الصوت، لما لمحت والدها، أسرعت نحوه، كأنما كانت تبحث عنه، اختبأت في حضنه، وراحت تبكي.
سار جمعهم نحو المنزل ككتلتين منفصلتين؛ التصقت سمر بأبيها، وتأبط أيمن ذراع أمه. أغلق عليهم الباب لأول مرة بعد سبع سنوات من الانفصال، دار نعمان بعينيه في جنبات المنزل، كان كما تركه آخر مرة، لم يتغير فيه شيء سوى الطلاء، والذي كان باهتًا قد تعاقبت عليه السنون. شعر بالبرودة تسري في أركانه، غاب عنه الدفء الذي كان يعمره يومًا ما، تداعت عليه الذكريات المؤلمة، شعر بوطأتها تضغط ضلوعه، فتحبس عنه النَّفَس. بصوت لاهث راح يوجه رسالة لمطلقته:
- لا تبعدي بنيك عن أبيهم، كي لا تجني المزيد من المعاناة والألم.
- (لفها الصمت والوجوم ولم ترد).
التفت إلى ابنه في حنوٍ:
- وأنت يا أيمن، نؤمل فيك أن تكون رجل البيت، ولكن لا يعني هذا أن تنسى أنَّ لك أبًا.
- (أدار أيمن عينيه بعيدًا عن والده، ولم ينطق)
شعر نعمان بغربته داخل جدران المنزل القاتمة، نظر لابنته الأثيرة؛ فتبعته إلى الباب، طوقها بذراعه، وقبَّل رأسها، وهمس في أذنيها:
- لا توصدي الباب دوني.
فهمت سمر رسالة أبيها، فطأطأت رأسها علامة الإيجاب، وانحدرت من عينيها الدموع حارقة. كانت تود لو طال الحضن أكثر من ذلك؛ حتى تشعر بالأمان الذي حرمت منه دون ذنب منها أو جريرة.
مرت الأيام التالية ثقيلة، لا طعم لها ولا لون، الجميع كانوا يترقبون إعلان النتيجة. كان أيمن متفوقًا كأخته سمر، فما باله انحدر مستواه إلى أن رسب. نزل الخبر على الأم كالصاعقة، لم تكن تخشى من فشل ولدها بقدر خشيتها من نظرة شماتة من المحيطين بها، كانت تتوجس خوفًا من لوم وتأنيب مطلقها، واتهامه لها بالفشل في تربية أولاده.
أكثر مَن صدمت بالخبر كانت سمر، والتي تكبر أخاها بثلاث سنوات، كانت تنتظر منه أن يكون سندها في الحياة، بعد أن فرقت الأيام بينهم وبين أبيهم. تذكرت أيامًا كانوا ينعمون فيها بالدفء، لا شك أنه كانت هناك بعض المنغصات حين كان يتناهى إلى مسامعها تلك المناوشات الحادة بين والديها، والتي يلزم الأب في أغلبها الصمت، أو يكتفي بمغادرة البيت؛ حتى تهدأ الأجواء، ولم تكد النار تخمد جذوتها، حتى تشتعل من جديد وهي أشد توهجًا وسعيرًا. كانت تشعر بأن ثمة انفصال بين والديها، بالرغم من أنه يغلق عليهما باب واحد، كانت الهوة تتسع بينهما يومًا بعد يوم، وكان شبح الطلاق يحوم حول البيت. يومها كانت سنها صغيرة، فلم تدرك من حقيقة الصراع بين والديها إلا ما يسرده أمامها الآخرون من الأهل والجيران والمصلحين، فلم يكن منزلهم يخلو يومًا من أحد هؤلاء. حتى جاء يوم الطلاق، لم تكن تدرك وقتها أنها ستطلق هي وأخوها من أبيهم، كما طلقت أمهما، ولكن القرار جاء من قِبل الأم، والتي لم ترتضي الانكسار لها وحدها، وإنما أشركت ولديها هذه المرارة التي اكتوى بها كبدها. فبذلت جهودًا مضنية لتشويه صورة نعمان لدى أولاده، كما أفلحت في تشويه صورته لدى كل المحيطين بها. كانت تريد الانتقام منه بحرمانه من ابنه وابنته. ربما أفلحت في صرفهما عنه، لكنها لم تفلح في تربيتهما بمفردها؛ لتدفع سمر وأخوها الثمن باهظًا. فترفض الأم أن تواصل ابنتها تعليمها الثانوي العام، وترغمها أن تلتحق بالتعليم الثانوي الفني؛ لتقضي بذلك على حلم والدها في أن تصبح ابنته طبيبة، كما توقع لها وتمنى. وها هو أيمن يستجيب للعب وينصرف بكليته عن التعليم بعد أن كان من المتفوقين.
بعد مرور تلك السنوات السبعة العجاف، أدركت سمر حقيقة الموقف برمته، فراحت تعاتب والدتها، وتحملها وحدها تبعات ما جرى.
- أمي، هل يرضيك ما وصل إليه حالنا؟
- (في استنكار) وما الذي لا يعجبك في حالنا؟
- فشل أيمن في التعليم، وحرماني من حلمي، بالرغم من تفوقي.
- أيمن رجل، وأنت مصيرك إلى الزواج.
- (بسخرية) الزواج! ومَن هذا الذي يتقدم لفتاة، ليس لها من مؤهلات سوى أنَّ أمها نجحت في طرد أبيها من حياتها، بعد أن شوهت صورته أمام أولاده وزيفت الحقائق.
لم تتحمل الأم ما قالته ابنتها، فصفعتها على وجهها، فسقط قرطها، فانحنت لتلتقطه، ثم حدجت أمها بعيون اغتسلت بالدموع:
- ليتك تحملتِ والدي.. ليتك لم تطلبي الطلاق..
- لقد كان أبوك ....
- (قاطعتها) لقد كان أبي نِعْم الأب، كما كان معك نِعْم الزوج، ولكنكِ كنت تبغضينه. كنت تطمحين إلى زوج غني، وكان أبي غنيًّا، ولكن في مشاعره.
- (بسخرية) مشاعر! هل أطعمكم مشاعر؟ هل أعلمكم بالمشاعر؟ هل أزوجك وأخاك بالمشاعر؟ هل ...
- (قاطعتها) ولكنك الآن، بلا مال، وبلا مشاعر.
- (وخزتها الكلمة)، همت أن تنطق، فأطبقت فمها دون كلام.
شعرت بالعري أمام ابنتها، فراحت تستر ما انكشف من سوأتها، لكنَّ رقعة العري راحت تتسع من جديد، فأسرعت إلى حجرتها هربًا من عيني ابنتها، أوصدت الباب خلفها، كانت تبحث عن مخبأ تتوارى فيه، بدت أمام المرآة عارية، فتحت دولاب ملابسها، لبست أكثر من ثوب، ولا تزال عارية، شعرت بالمرآة عيونًا تحملق فيها، تجردها من ثيابها. أخفت وجهها بكلتا يديها، ازداد شعورها بالعري، دنت من المرآة، هشمتها بقبضتي يديها، ثم ندت عنها صرخة عالية، جرت على إثرها سمر، كانت الدماء تنزف من كلتا يديها، خبأت نفسها في ابنتها، فتخضبتا بالدماء. بدت صورتهما معا في المرآة المهشمة كمسخ مشوه غابت ملامحه خلف الدماء.