قصة بعنوان "الفراشات" بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
كتب: سعيد المنزلاوي
كانت تطالع وجهها في مرآتها المصنوعة من العاج، كانت إحدى المقتنيات الأثرية، أهداها إليها أحد الأمراء إعجابًا بغنائها، وكانت هذه المرآة أثيرة لديها، دائمًا تحتفظ بها في صندوق مذهب أنيق، كانت مستودع حليها، فأخلته للمرآة، والتي كانت من النقاء، بحيث تجلي الصورة بطبيعتها كما تراها العيون، رائقة بلا زيف.
اتسعت حدقتا عينيها، وهي تشاهد تلك التجاعيد التي غزت وجنتيها، تخللت بأناملها خصلات شعرها، كان البياض قد زحف فيه كخيوط قطنية غير عابئ بالأصباغ التي تواليه بها من حين لآخر، في محاولة إخفائه، والتي ما تلبث تتراجع كاشفة عن ذلك الشيب الأهوج.
شاهدت احتضار شبابها، وهو يذوي كزهرة يابسة. جعلت تدير النظر بين صورتها في المرآة، وصورة زفافها التي تتوسط الحائط فوق البيانو، كان البون شاسعًا بين الصورتين؛ فانحدرت على الخدين دموعها حزنًا وكمدًا على عقد من الزمان مرَّ عليها دهرًا، نال منها الزمان فيه الشيء الكثير.
جففت دموعها، ودست مرآتها العاجية في الصندوق، وراحت تعزف على البيانو مقطوعتها الأثيرة:
وتراقصت
كفراشة
بين الغصونْ
تزهو بأثواب الربيعْ
تعدو وتمرح بين أغصان الشجرْ
وبلابل تشدو
فينتعش النهارْ
أيقظ الشدو زوجها، فهبط الدرج من الطابق الثاني، يسبقه وابل من السباب، خدش مسامعها الرقيقة، فأوقفت العزف وانسحقت بين أسنانها الكلمات كنفسها التي انسحقت فيها الآدمية.
رغم قسوة الكلمات التي جابهها بها زوجها، إلا أنها لم ترد. رضيت بصفع الكلمات وخدشها، لكنَّ نارًا مستعرة كانت تتأجج في صدرها.
نهضت تلبي طلب زوجها في إعداد وجبة الإفطار، وبينما تعد له الطعام، عنَّ لها أمر، وعزمت عليه. وضعت له الطعام على الطاولة، وجلست قبالته، كان يأكل وحده، بينما هي ترسل نظراتها ساهمة في لا شيء. سألها:
- هل هناك شيء؟
- لا.
- فلماذا أراك شاردة؟ (فيما يشبه الندم) هل أغضبتك ثورتي؟
- لا، لقد اعتدت عليها.
- (زال عنه تأنيب الضمير) فماذا إذن؟
- سوف أعود للغناء وللموسيقا مرة أخرى.
- (توقفت اللقمة في حلقه، فعاجلها بشربة ماء) ماذا؟ ألم ننتهي من هذا الأمر؟
- العمر يتسرب من بين يديَّ، كما تسرب المجد الذي كنت أطمح في الوصول إليه.
- وما الجديد؟ كلنا نمر بتلك الأطوار.
- (حدجته بنظرة عاتبة) وأنت لم تتغير أطوارك، فلا زلت قاسيًا معي، جافًّا في طبعك.
- (هرب من النظر في عينيها) أنا لم أرغمك على شيء. لقد خيرتك، فاخترت بيتك.
تراجعت برأسها إلى الوراء، كأنما تستعرض تاريخًا مر بهما. شعرت بأنفاسه، تلاحقها، تدنو منها. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رافقها فيها زوجها، وهي تقوم بالعزف دار الأوبرا في تلك الاحتفالية بالعيد القومي للمحافظة، كان هو من ضمن المدعوين، بحكم منصبه، ولولا ذلك ما رافق زوجه.
حين كان الجميع يشيدون بأدائها ويتوقعون لها مستقبلًا عظيمًا، راح هو يسفه أحلامها، ويهون من شأنها.
كانت تشعر في قرارة نفسها أنه يغار من نجاحها، وأن غيرته تلك هي التي جعلته ـ دون مبرر ـ يكسر أسطواناتها ويمزق نوتاتها الموسيقية.
حتى كان اليوم الذي خيرها فيه بين فنها وبين أولادها، كان ذلك عندما جاءتها دعوة للسفر إلى إحدى الدول العربية؛ لإحياء بعض الحفلات. لم يوافق، بالرغم من أنها كانت ستصطحب أولادها معها. حينذاك احتدم بينهما النقاش، وكان التخيير هو القرار الجائر منه.
كانت تدرك ثقل أن تتحمل بمفردها أطفالًا أربعة، وليس لها دخل ثابت تنفق منه. كان الخيار صعبًا، فضحت بفنها من أجل تربية أبنائها واستقرار بيتها، إلا أنها لم تسلم من إهاناته المتكررة لها، وتسفيهها دومًا، بل والانتقاص منها أمام أبنائهما.
عادت من شرودها، وجدته قد أنهى إفطاره، وراح يعد لنفسه فنجانًا من الشاي. عاجلته بقولها:
- سأعود للفن.
مضى إلى التراس المطل على الحقول، وأرسل بصره إلى الحقول الشاسعة، وكأنه لم يسمع شيئًا. تبعته، جلست قبالته، كررت قولها:
- سأعود للفن.
أتت فراشة وحطت على فنجان الشاي، فسحقها بين إصبعيه، وراح يحتسي الشاي في هدوء يحسد عليه. كان الفلاحون يروون أرضهم، كان الماء يسري في القنوات الصغيرة، فيتغلغل في حنان بين المصاطب المزروعة، فيروي ظمأها. ودت لو يروي زوجها ظمأها للفن؛ فيوافق على عودتها إليه.
أتى على فنجان الشاي إلى نهايته، فلما همَّ بالقيام، رجته بعينيها أن يجلس، فاستجاب لها على مضض. رجته أن يستجيب، فأبى. ترجته بكل غال لديه، ولكنه توعدها مهددًا بأنه سيحرمها من أولادها. ثم نهض واضعًا بين يديها ذات الخيار الجائر، إما الفن وإما أولادها.
نفسه الخيار الذي حرمها من فنها خمس سنوات كاملة، بعد أن وقفت على أولى عتبات المجد. لكنها ضحت بالمجد والشهرة وتخلت عن فنها الذي يسري كالدم في شرايينها، ممتزجًا بكل خلية من خلاياها، تخلت عنه من أجل أن تهنأ في بيتها، لكن زوجها يعاملها كخادم، ويمتهن آدميتها، وبالرغم من أنه يتبوأ مركزًا مرموقًا في وظيفته، إلا أنها كثيرًا ما شعرت أنه يغار من نجاحها وتقدمها واحتفاء الإعلام بها دونه. وبدلًا من أن يكون عونًا لها، راح يطمس نجمها الذي بدأ يسطع، ويحول بينها وبين المجد الذي بلغته.
كانت تسمع أن المرأة عتبة، ولكنها أيقنت الآن أن الرجل كذلك عتبة. وحين وجدت نفسها في مفترق طريقين متقابلين، اختارت أن تستجيب لذلك النداء الذي يهتف من أعماقها، لا سيما، وهي تشاهد نفسها تذوي كزهرة فقدت أريجها وعبقها، حين تسرب منها رونق الحياة، وسرى إليها الجفاف. كانت تشعر بأن حياتها أمست صحراء، ليس فيها سوى الهجير.
حين فقدت الحنان والدفء والأمان؛ نفضت يديها من كل شيء، وخرجت تتنسم أنداء الصباح خارج أسوار المنزل الذي سجنت نفسها فيه طواعية، فلم تخرج منه طيلة السنوات الخمسة الماضية، حتى نسيت معالم المكان الذي تقطن فيه.
شعرت بنفسها كزهرة كادت أن تحترق حين شح الماء من حولها، ما إن أصابها طلٌّ، حتى انتشت وانتعشت. فكت الأزرار العليا لبلوزتها البنفسجية، ونزعت عنها غطاء الرأس، كانت تريد أن تملأ صدرها من الهواء، وأن تسمح للنسيم أن يعبث بشعرها، ويداعب خصلاته.
كانت الفراشات الملونة تحلق بين فروع الشجر، شعرت بخفة جعلتها تحلق معها. كان صوت موسيقا عذبة يأتي من بعيد، يسري رائقًا مع أنسام الصباح، راحت تصغي إليها، وتشدو مع الألحان:
وتراقصت
كفراشة
بين الغصونْ
تزهو بأثواب الربيعْ
تعدو وتمرح بين أغصان الشجرْ
وبلابل تشدو
فينتعش النهارْ
كان صوت الموسيقا يعلو، وكانت تقترب من الصوت شيئًا فشيئًا، وقد ولت البيت ظهرها.