إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

عندما تنوح القصيدة، دراسة نقدية للدكتور سعيد محمد المنزلاوي

 عندما تنوح القصيدة، دراسة نقدية د. سعيد محمد المنزلاوي

كتب. سعيد المنزلاوي



هل يمكن أن تنوح القصيدة؟ نعم؛ لأنها قطعة من مشاعر الشاعر وأحاسيسه، وهي الطاولة التي يعرض عليها كل ما تجيش به نفسه.

وتوضح لنا قصيدة "أُغنية عربية" على وزن بحر الكامل، للشاعر (أحمد شلبي) هذا الإحساس المثقل بالحزن كما توضح لنا أبعاد هذا الحُزن ومسبباته، فيقول:

(وقفت على شطِّ الزمان تُنادي

 بنُواح باكٍ لا ترنُّم شادي


الركبُ مر أمام عينيها

 بلا أملٍ يُردِّدُهُ غناء الحادي


كانُوا على طُول الطريق أذلةً

 ومُقرنين العُمر بالأصفاد


لا رائحٌ أصغى إليها ـ حينما

 هتفت إليه ـ  ولا تلفت غاد) 


(الأعمال الشعرية الكاملة، أحمد شلبي، مصدر سابق، ج2، ص47) 

تبدو المراوغة في عنوان القصيدة، والذي يتألف من كلمتين نكرتين، جاءت الثانية نعتًا للأولى، والتي تعني ما يُغنَّى من الكلام ويُترنَّم به من الشِّعر ونحوه (معجم اللغة العربية المعاصرة، مرجع سابق، ج2، ص1647)، إذ يعني النعت، نسبة الأغنية إلى العرب. فالعنوان يحيل على حاسة السمع، التي تتحرك دلالتها حركة مزدوجة بين (الإضاءة والعتمة) على معنى أنها – الأغنية – تعبير عن الانتصارات، وهذا ما يتبادر لدى المتلقي من القراءة الأولى للعنوان، والتي ينفيها النص، والذي ينطوي على معنى مأساوي يحيل على الواقع العربي بتناقضاته وضياعه وبؤسه.

وتبدأ القصيدة سرديتها من جغرافية زمنية يلتقي فيها الماضي بالحاضر بعيدًا عن التقسيم المكاني، فالأقطار العربية كلها قطر واحد، وشأنها شأن واحد، وفيها يُشير الشاعر إلى تأخر الأُمة العربية وهَوانها، وعجزها عن اللحاق بركب الأُمم، فدلالة العنوان تنصب على الصراع مع الزمن، فالزمن يجري غير عابئ بأحد. 

ويتضح في هذا الاستهلال كل من عنصري المكان والزمان، فالمكان يحدده الشاعر بالمدن العربية، أما الزمان فيراوح فيه الشاعر بين الحاضر والماضي؛ فالأسى صورة من صور الحاضر، لكنَّ الحنين إلى الأمجاد يرتبط بالفعل الماضي والأحداث الماضية التي تنتمي إلى المدن العربية، وقد أدى ضمير الغائب دورًا فاعلًا في كشف وتعرية الوقائع والتاريخ، فقد استبدل الشاعر بالوقوف على وقائع التاريخ واستظهارها، الوُقُوف على صوامت الأطلال واستنطاقها. وهنا تتسع رؤيته لتستوعب مساحة الوطن العربي، والذي ضاع في زحمة الأحداث التي هزت قوائمه. فقد أحست الأُمة العربية بضياع حضورها الإنساني كدولة وحضارة.

وفي القصيدة ذاتها تتوالى الصور والرموز والدلالات والمواقف والشخصيات التراثية في ثراء وخصوبة واضحَين. في محاولة من الشاعر في أن يُطلع الأحفاد على سيرة الجدود العظام، لعلها تكون ملاذًا من فتن الزمان، يقول: 

(هِيَ فِي اللَّيَالِي لاَ تَزَالُ كَئِيبَةً

 لاَ تَرْتَدِي إِلاَّ ثِيَابَ حِدَادِ


تَرْتَدُّ أَحْيَانًا إِلَى كَهْفِ  الأَسَى

 وَتَحِنُّ أَحْيَانًا إِلَى الأَمْجَادِ


وَعَوَاصِفُ الآلامِ  تَذْرُو حُلْمَهَا

 فِي القُدْس فِي بَيْرُوت فِي بَغْدَادِ) 


(الأعمال الشعرية الكاملة، أحمد شلبي، مصدر سابق، ج 2، ص47، وما بعدها) 

إن المنطق السردي في هذه الأبيات هو منطق الاستتباع الزمني. فالأفعال والأحداث تتابع نسقيًّا غالبًا ما يكون سببيًّا أو زمنيًّا. مما أمكن للسرد بضمير الغائب أن يمسك بتلابيب الحزن الساكن في كل البقاع الإسلامية والعربية في إيقاعٍ لاهث، يحدو نحو زمن ضاع ومعه كل الأشواق والأحلام والأماني والآمال. فالشاعر لا يني يذكرنا بحقيقة الوحدة الجغرافية للوطن العربي، وإن تعددت أسماء أجزائه، فما يعاني منه قطر، تعاني منه سائر الأقطار.

وبهذه الطريقة، فإن الشاعر يسرد حالها بضمير الغائب (هي)، المشكل الرئيسي للبنية السردية بالإضافة إلى علاقات زمانية ومكانية ونأى بنفسه قليلًا عن الأحداث، مما يدخل بنا إلى عالم السرد. وهنا نجد توظيفًا لإحدى الشخصيات المفترض وجودها في ذهن الشخصية السارد التي تمثل نافذة تُطل بها على ما يعتمل في داخل الشخصية السارد من إحساس عميق بالخيبة يدل عليه ما ينثال على لسانها من إرهاصات واعترافات، إذ نلمس من خلال هذا الخطاب الذاتي المباشر تقوقع الشخصية وركونها إلى يأسها معلنة إذعانها لواقعها، ومن ثَمَّ يتصدر تكرار صيغة النداء في قوله:

(يَا وَرْدَةً سَقَطَتْ عَلَى شُطْآنِنَا

 لَمْ تَلْتَقِطْهَا بَعْد ذَاكَ أَيَادِ


يَا مَاضِيًا ضَلَّ الطَّرِيقَ لِعَهْدِنَا

 وَكَأَنَّنَا جِئْنَا بِلاَ مِيلادِ 


يَا صُورَة ضَاعَتْ مَلاَمِح وَجْهِهَا

 يَا نَجْمَةً تَاهَتْ بِأُفْقِ بِلادِي


يَا دَمْعَ قَيْسٍ فَوْقَ رَمْلٍ مَا وَعَى

 أَحْلامَ لَيْلَى فِي ذُرَا التُّوبَادِ 


يَا وِقْفَةَ الشُّعَرَاء عِنْدَ مُرُورِهِمْ

 بِدِيَارِ (مَيَّةَ) أَوْ دِيَارِ (سُعَادِ) 


(الأعمال الشعرية الكاملة، أحمد شلبي، مصدر سابق، ج2، ص49)

تتوالى الصور والرموز والدلالات والمواقف والشخصيات التراثية في ثراء وخصوبة واضحَين. ويتخذ السرد صيغة الحوار التي تنبني من إثارة الذات الشاعرة بحوار مع الهوية الضائعة، تتمركز فيه بؤرة الكلام عن الماضي وأمجاده، لإحياء الذاكرة من جديد. وقد استخدم الشاعر الفعل الماضي؛ ليسترجع زمن الانتصارات العربية ويقابلها بزمن الهزائم العربية في الحاضر.

ويهيمن العنوان على القصيدة، من خلال تيمة الغناء القائمة على الإعادة والتكرار، كذلك في هذه الأبيات تتسلط (يا) بدلالتها على البعد الزماني من ناحية، وبشحنها بمعاني الحنين والأنين من ناحية ثانية، وبتسلطها تسلطًا تكراريًّا من ناحية ثالثة، مما يضع القصيدة بين اغترابين: زماني ومكاني، بارتداد الشاعر إلى الماضي متلمسًا ما افتقده في حاضره ووطنه. وترتبط هذه البنية الحوارية باستدعائه تاريخًا غائبًا أو شخصيات تراثية محفورة في الذاكرة العربية بارتباطها بالوطن وبالديار، إلى ذاكرته؛ ليعيد من خلال حديث النفس رسم الصورة مرة أخرى، وكأن هذا الحوار الدرامي يمثل صورة لصدى الحدث وأثره، ويكشف عن المفارقة التي خلقتها البنية السردية المتمثلة في وضع الحاضر بانهزامه وانكساره، إزاء الماضي الزاهر الذي درست معالمه وانمحت آثاره ولم يبق لنا إلا هزائم متكررة وانكسارات متوالية.

لقد استطاع "أحمد شلبي" برمزية "الغناء" في هذه القصيدة، أن يبوح دون أن يبوح بشيء. فالغناء يكون للمآثر والمفاخر والانتصارات، ورفضه البوح إعلان بأنه لا شيء يغري بالغناء والشدو.

وكان لمجيء القصيدة على بحر الكامل، أثر في إثراء السرد، لما ينماز به هذا البحر من كثرة الحركات والتي تناسب مقام الترنم والغناء، ولذا استعان الشاعر بالجهر في حرف الروي مع التزامه ألفًا قبله؛ لتناسب تيمة النداء والغناء على حد سواء. كما أن الشعور بوطأة الواقع الذي يجثم على كلماته، عبَّرت عنها حركة الروي المكسور، كما عضدها حرف الوصل (الياء)، والذي يُحدث أنينًا في نهاية كل بيت، مجسدًا حالة الانكسار المخيمة على النص.

عندما تنوح القصيدة، دراسة نقدية للدكتور سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent