إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

مقام سيدي الهادي

الصفحة الرئيسية
مقام سيدي الهادي
مقام سيدي الهادي
 
 
كتب - سعيد المنزلاوي
 
 
يختلف الناس حول الأضرحة والأولياء، والغالبية تتضارب الأخبار عن حياتهم، ولا نعرف من منهم كانت له كرامات، ومن ادعاها كذبا وزورا. إلا أن الجميع قد أفضوا إلى ما قدموا، وفي هذه القصة يلقى القاص د. سعيد المنزلاوي الضوء على هذا الملف الشائك، ولكن في صورة رمزية.
 
 
لعلك شاهدته يومًا في الطريق، أو نما إليك شيء عن خبره، ولعلك كغيرك أخذتك الدهشة، وشط بك عقلك في تفسير تلك الحال الغريبة، التي لولا أنك عاينتها بنفسك ما صدقت أبدًا أن يوجد مثل هذا الإنسان. وهل يمكن للطب الذي يصنع المعجزات أن يقف عاجزًا مكتوف اليدين أمام حالة كهذه؟ محيطًا إياها بسحب ضبابية ترسم حوله علامة اسنفهام تعلن في سفور عجز العلم عن تفسير تلك الظاهرة، وهزيمته أمام القدر.
 
 
ولعلك مثلي تأخذك بالعلم الشفقة فلا تلومه على تقصيره وعجزه أمام هذه الحال التي لا تعبر خاطر الإنسان إلا خيالًا محضًا لا صلة له من قريب أو بعيد بالواقع، ولكنها أضحت واقعًا ملموسًا، وأمرًا مشاهدًا، كثرت حول الشائعات، وانتشرت عنه الحكايات الغريبة.
 
 
إن صاحبنا ويدعى السيد "هادي"، ليس له من اسمه نصيب، فهو منذ أن تمكن من استعمال آلة اللسان، راقت له هذه الآلة، فقرر أن يستعملها دون توقف، فهو لا ينقطع عن الكلام ليلًا أو نهارًا، يتكلم ويسترسل في حديثه دون توقف، الكلام عنده كالنَّفَس، لا ينقطع، حتى وهو يلوك طعامه ويزدرده يختلط كلامه بطعامه؛ فيخرج مطحونًا وممزقًا أحرفًا وأشلاء.
 
 
ولعلك ظننت كما يظن كثير من الناس أنه يتوقف عن الكلام إذا ما غلبه النعاس، ولكنه ـ وهذا ما أثار حيرة العلماء ـ يتكلم وهو مغمض العينين، بل إنه يسرد تفاصيل حلمه الذي يعيشه في ساعات نومه، وكثيرًا ما تثير أحلامه ضحكات الجالسين حوله، إلا أنهم في الكثير من الأحوال لا يعيرون مشاهداته المنامية أدنى اهتمام، فهي لا تختلف عما يراه أحدنا عندما يستسلم لسلطان النوم.
 
 
الآن هذا الرجل تحول إلى أسطورة ولغز حير العالم، حتى حيكت حوله الكثير من الأقاصيص والنوادر التي يقف حيالها العقل بين مصدق ومكذب، إلا أنه وأمام حالة كهذه يسلم بها جميعًا. قالوا إن أمه وهي حامل فيه كانت تسمع صوته وهو جنين، وأنه نزل متكلمًا، وكان أول ما تكلم به تلك الأحاديث التي كانت تدور حوله بين أمه وأبيه.
 
 
وكأي ظاهرة عجيبة يعجز العلم عن تفسيرها، ينسبها الناس إلى الخرافات تارة والغيبات تارة أخرى، فبينما يراه البعض رجلًا مسه الجن، يراه البعض الآخر وليًّا من أولياء الله الصالحين، وربما شط البعض فجعلوه نبيًّا، وجعلوه ما ينطق به لسانه وحيًا يتنزل عليه من السماء.
 
 
ولأنه نشأ وعاش في بيئة ريفية، فقد اعتبره أهل القرية رجلًا مبروكًا، فكفوا صبيانهم عن السخرية منه، وأرسلوا نساءهم لأخذ البركة منه، وتوافد عليه كل صاحب حاجة لينال منه دعوة أو يستدل من كلامه الذي لا ينقطع على بشارة أو نبوءة، تُرى هل كان هذا الرجل صاحب سر وكرامات؟ وهل يحمل هذيانه وحيًا أو بعض وحي؟ إن الكثير من الكلام المأثور عنه لا يعدو في أحسن الأحوال أن يكون كلامًا عاديًّا يسترسل فيه ويعيد ويكرر. 
 
 
ولقد تتلقف كلمة أو كلمتين من مئات أو ألوف الكلمات التي يقذفها فمه دون وعي أو روية، يمكن أن تفيدك وتعوضك عن هذا الوقت السمج الذي تحاملت فيه على نفسك، وارتديت أثوابًا من الصبر، وليس ثوبًا واحدًا، ومسامعك تتلقى هذا الهراء. إلا أنه في أحوال قليلة، وقليلة جدًا، كان يعلق على الأحداث الجارية والتي تمر بها مصر، لكن آراءه لم تكن لترقى إلى كلام الصفوة والمتخصصين.
 
 
هل تزوج هذا الرجل؟ إنني لا أستطيع أن أجزم بذلك، فالبعض يذكر أنه عاش أربعين سنة، ولم يمس امرأة قط، والبعض الآخر يؤكد أنه كانت له أربع نسوة، لم تتحفه إحداهن بالولد، في حين يقرر البعض أن إحدى زواجاته أنجبت له أربع بنات متن جميعًا في المهد. ولعل هذه الأخبار المتناقضة هي ثمرة ما أحاط بهذا الرجل اللغز من سياج من التفسيرات الخرافية، وذلك حين عجز العلم عن تفسير حالته تفسيرًا منطقيًّا.
 
 
وكما نسجت حول حياته الخرافات والكرامات، كذلك كانت وفاته، والتي تضاربت فيها الأقاويل؛ فمن قائل أنه مات في إحدى المصحات العقلية، حيث كان مصابًا بالهلاوس، ومن قائل أن كان يصلي في كل ليلة مائة ركعة يختم فيها القرآن كله، وأنه صعدت روحه وهو يقرأ قوله تعالى: "يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" فأسلم عندها الروح إلى بارئها. 
 
 
ومن قائل أنه مات صائمًا وشهيدًا في حرب العاشر من رمضان بعد أن أبلى بلاءً حسنًا. لكن ما يهمنا هو أنه عندما مات خرج أهل قريته جميعًا والقرى المجاورة لتشييع جثمانه، وأرادوا أن يدفنوه في مسجد القرية الكبير، إلا أن إمام المسجد اعترض عليهم لحرمة اتخاذ المساجد قبورًا، فتبرع أحد المزارعين الطيبين بقطعة من أرضه تقع على مشارف القرية، وبنوا له مقامًا أسموه مقام سيدي الهادي في أهدأ مكان في القرية.
 
 
يقف وحده شامخًا وسط الحقول اللهم إلا بعض الأبراج التي يأوي إليها الحمام تطوقه من جهاته الأربعة، صانعة حوله سياجًا، بينما يرسل الحمام بهديله أنغامًا من الحنين تضفي على الضريح حالة من الوجد، والتي تثير في النفس شعورين متلازمين هما الرهبة والقدسية، تجعل من يمر به يعجب كيف توقف هذا اللسان واستراح بعد طول الكلام والضجيج.
مقام سيدي الهادي
google-playkhamsatmostaqltradent