إعلان

recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الظل أشياء لا ترى لكنها تسكن داخل أعماقنا

الصفحة الرئيسية

الظل أشياء لا ترى لكنها تسكن داخل أعماقنا

الظل أشياء لا ترى لكنها تسكن داخل أعماقنا
 
 
كتب - سعيد المنزلاوي
 
 
ربما نتشارك فيها ونشترك في ضياعها، وربما تجمع شتاتنا. ألغاز نحياها، ولا ندرك كنهها، تناول هذا المعنى سعيد المنزلاوي في قصته المعنونة بالظل، هو رجل وربما شاب، يتسم وجهه بالملاحة، ويكسوه وقار وهيبة. ووجهه المشرق المنير يأبى أن يشي بسنه؛ فربما كان في الثلاثين، وربما ناهز الأربعين أو الخمسين، وربما لا يزال في عقده الثاني، يخلو وجهه من التجاعيد وتشرق في مفرق شعره بعض الشعرات البيض التي تضفي عليه هيبة ووقارًا.
 
 
لم يدرِ أحد متى جاء، أو من أي مكان أتى، وهل نشأ بينهم أم طرأ على المكان، وتساءلوا فيما بينهم: أيمت لأحدنا بصلة؟ وإن كان، فما هي تلك الصلة؟ لكنهم أجمعوا جميعًا أن عيونهم تفتحت عليه، الكل يعرفه ولا يعرفه، له من الأسماء مثل عددهم، وله مع كل فرد منهم مواقف وأحداث، تباينت نظرتهم إليه، فمنهم من يراه وليًّا، ومنهم من يراه دجالًا، ومنهم من يراه مجنونًا، ويراه آخرون وهمًا، بينما يراه الكثيرون إنسانًا عاديًّا يحيا بأفكاره في عصر ليس بعصره. 
 
 
لكن هذا الإنسان العادي كثرت حوله الأقاويل حتى زعم بعضهم أنه كان إحدى المومياوات عاشت في الزمان الغابر، ثم بثت فيها الروح. هل يكون ناقوس إنذار؟ أو تراه نبيًّا جاء يبعث الضمائر من رفاتها؟، كان يبدو غريبًا في كل شيء، شديد الخجل، تملأ عينيه دائمًا نظرة استغراب ويدهشه كل شيء، يبدو دائمًا في عجلة من أمره، كأنما يعد نفسه لرحلة طويلة وبعيدة. وقد مكث بينهم نحوًا من نصف قرن أو دونها، كما أخبر بعضهم، لكن البعض الآخر أقسم أنه لم يمكث بينهم إلا يومًا واحدًا، فلم يكد يطأ الأرض بقدمه حتى زلت به إلى هاوية الموت، فسلم له نفسه راضيًا غير راغب في شيء من الدنيا.
 
 
كانوا يزاولون أعمالهم في جد ونشاط في جو صحو تحت سماء صافية، ولم يكد يمر وقت طويل حتى تلبدت السماء بالغيوم، وتلون الجو بما ينذر بأمر جلل. وقرَّ في أعماقهم شيء انقبضت له نفوسهم، وعزفت الريح سيمفونية حزينة تزف إليهم نعيه؛ فهبوا جميعًا يحثون إليه الخطا، كانوا في سيرهم، كأنهم أحاطت بهم غلالة من الغيم لفتهم جميعًا، فكانوا يسيرون معًا، كأنهم رجل واحد، غطاهم الصمت، كانوا يعرفون طريقهم إليه وينجذبون نحوه، تقودهم خطاهم وهم ذاهلون.
 
 
بدا منزله من بعيد كالكهف المظلم، بعد أن كان منيرًا، ولأول مرة أدركوا أن منزله مطل على القبور، كيف غابت عنهم هذه الحقيقة؟ لا يدرون. كأنه كان على يقين أنها الدار التالية لداره؛ فلم تكن تفصله عنها سوى خطوة واحدة، وقد خطاها، كالبرق اندفعوا داخل منزله، ووقفوا خاشعين بين يدي جثمانه، كنا معه، فيه، داخله، لم نتركه إلا منذ برهة قصيرة، لم يشك من علة أبدًا، ربما كان مريضًا، واستحي أن يخبرنا، كان عفيفًا؛ فلم يرد أن يثقل على كاهلنا بشأن من شئونه.
 
 
لم يسلبه الموت جماله فما زال وجهه منيرًا كالقمر، واضحًا كالصدق، ولا تزال تفوح منه رائحة المحبة الذكية. فقط كل ما استطاع الموت أن يسلبه منه، هو الذي البريق الذي كان يشع من عينيه، فيملأ نفس من يراهما أمنًا وطمأنينة، أما وقد انطفأ ذلك البريق، فقد أنكروا أنفسهم، وشعروا بالعري، شيء ما بث في روغهم أنهم صاروا عرايا؛ فحاولوا جاهدين أن يستتروا بالجدران عن تلك العيون المتلصصة، كم دخلنا منزله أكثر من مرة، كنا كأنما ندخل في أحشائنا، نتوغل داخل أعماقنا، فنطرح بين يديه ما يشغلنا، ونخرج وقد انفرجت أساريرنا، أما الآن فنحن نسير بغير ظلال.
 
 
لم يقفوا أمام الجثمان المسجى أمامهم مكتوفي الأيدي، وإنما قاموا بتجهيزه معًا كرجل واحد يملك عشرات الأيدي، كانوا يقومون بذلك وكأنهم يؤدون عملًا لا غنى لهم عنه، كالتنفس تمامًا، جردوه عن ملابسه، فكأنهم جردوا أنفسهم، كان الماء الذي يصبونه على الجسد المسجي يمحو عنهم الشوائب والدرن. صفت نفوسهم وأمسوا أكثر راحة، وكأنما حط الماء عن كاهلهم الهموم. وتلقفوا الكفن، كان شديد البياض ناصعًا، وكأنما نسجت خيوطه من النور. وما أم دثروه في الكفن حتى زال عنهم الإحساس بالعري، وكأنهم اندسوا معه داخل الكفن الرحيب.
 
 
لم تعد بنا حاجة لأن نحتمي عن أعين الآخرين، وها هو ذا الجسد يتعاظم ويتعاظم، إنه الآن يماثلنا جميعًا وها نحن نحمله، ما أخف وزنه، لم يثقل كاهلنا ونحن نحمله، فكأننا لا نحمل سوى النسيم، أخبرهم إمام المسجد أن صلاتهم عليه ليست كصلاتهم على غيره، فهي تطهرهم، وتسمو بهم. ثم اصطفوا جميعًا للصلاة عليه، كان قلبه معلقًا بالمساجد، لم ينقطع عن الجماعة يومًا. ويغمرنا إحساس عميق بأنه يشاركنا الآن الصلاة عليه، أثناء سير المشهد في طرقات القرية، علت المنازل غبرة وبدت وكأنها تحزن عليه، فلم تعد لها بهجتها. 
 
 
وتأملوا منزله عن كثب، كلٌّ كان يرى فيه منزله، بل نفسه. وتأملوا لحده لم يكن مثلما ألفوه، بل كان عميقًا وغائرًا، وكان في امتداد البصر فلم يدروا هل القبر داخل المنزل، أم أن المنزل داخل القبر. ونزلوا به ليوسدوه لحده، كان اللحد من الاتساع بحيث ضمهم جميعًا إليه، وغابت عنهم ملامح منزله، فكأنهم قبروه ومنزله، ما إن أهالوا عليه التراب، حتى اصطفوا جميعًا يواسي بعضهم بعضًا، كان مصابهم فيه واحدًا، كان كل واحد منهم أقرب إليه من غيره، فاستوت إليه الصلة.
 
 
وتأملوا قبره، فما هو بقبر. دفنوه وما دفنوه. وتساءلوا فيما بينهم: هل مات بالفعل؟ وكيف يموت؟ إنه حي، يرانا ويسمعنا، ويحملق فينا، إنه حي فينا بنا معنا، يكلمنا ونكلمه، يسمعنا ونسمعه، يشعر بهمومنا، ويشاركنا أفراحنا وأتراحنا، وبينما هم في وجوهم، إذ انسلخ من بين أيديهم رجل وربما شاب، يتسم وجهه بالملاحة، ويكسوه وقار وهيبة. 
 
 
ووجهه المشرق المنير يأبى أن يشي بسنه؛ فربما كان في الثلاثين، وربما ناهز الأربعين أو الخمسين، وربما لا يزال في عقده الثاني، يخلو وجهه من التجاعيد وتشرق في مفرق شعره بعض الشعرات البيض التي تضفي عليه هيبة ووقارًا. وسار غير بعيد، وهم يتبعونه بأبصارهم دون أن تنفرج شفاههم بكلمة واحدة، وما هي إلا ثوان، حتى غاب عن أنظارهم، وكأنما انشقت الأرض وابتلعته، أو هبط عليه طائر وصعد به إلى السماء.
الظل أشياء لا ترى لكنها تسكن داخل أعماقنا
google-playkhamsatmostaqltradent