"فراشات غزة"قصة قصيرة للروائي محمود شلبي
كتب.محمود حامد شلبي
رفراشات غزة:
كانت خطواتها الأولى بعد الحبو وكأنها خطوات عداءة أوليمبية تعدو في مضمارها والذي لم يكن سوي قلبي..
قلبي الذي تألقت دقاته فرحا بخطواتها الأولى، وصارت كل نبضة فيه وكأنها مشجع يلهج بالثناء على موهوبته العظيمة.
ومع نعومة أظفارها غرست فيها حب الوطن، وطننا الكبير، الوطن العربي..
علمتها كيف تحبه وأنا أعلمها كيف تتوازن لتحسن السير.
كبرت الصغيرة وصارت تلميذة في الصف الثالث الابتدائي، ولكنها تحمل عقل طالبة جامعية، وحنان أم، وعناد طفلة في الخامسة أو السادسة من عمرها.
رأت بعينها ما يحدث لأطفال غزة؛ فتمسكت بمقاطعة بضائع المشاركين في قتل إخوانها؛ مقاطعة من يعي معنى قطرة الدم التي تسيل بقيمة كل سلعة تشتريها من بضائعهم.
وذات يوم طلبت مني أن أسمح لها بالذهاب في رحلة متجهة إلى سيناء.
رفضت في البداية رفضا قاطعا؛ فلا يخفي على أحد ما تتعرض له تلك المحافظة الباسلة من أعمال إرهابية غادرة بين الحين والآخر، ولكني أمام إلحاحها لم أستطع المقاومة وافقت.
وصلت الرحلة محطتها الأخيرة، وكانت طابا، وعند رجوع الطلاب إلى الحافلة، لم يجدوها بين الطلاب، وانطلق الجميع يبحثون عنها..
اتصلوا بي عندما فشلوا في العثور عليها يسألوني هل ثمة أقارب لها في سيناء، وأجبتهم بالنفي، وانطلقت بسيارتي إلى سيناء لأبحث عن صغيرتي، وفي رأسي سؤال:
هل فعلتها واتجهت نحو الحدود؟
نعم فعلتها الصغيرة، لقد استقلت إحدى الحاويات المتجهة بالمعونات لأهلنا في غزة..
وعلى مرمي البصر رأت الشاحنات والحاويات وكأنها عربات قطار يمتد طوله بلا نهاية.
وعندما توقف السرب عن السير، ترجلت واتخذت من قلبها دليلا يقودها إلى حيث تتمنى..
إنها تتمنى الوصول إلى غزة؛ فتلتقي بالأطفال ممن هم في مثل سنها؛ تشاركهم الآلام والأحزان، تواسي من فقدت ذويها، وتطعم من عجزت عن الطعام لإصابة ألمت بها، وتبكي مع من تبكي تشاركها دموعها، وتمنحها من قلبها باقات عطف تواسيها نكبتها. وبعد مسير طويل وجدت ضالتها؛ عشرات الأطفال يحملون آنية وينتظرون المعونة..
وجوه بائسة، نظرات مستعطفة، وأجساد أنهكها البرد، وأضناها الجوع، وقلوب تشربت حسرات الفراق حتى أنها لم يعد فيها بقية جهد لحزن جديد.
بحثت بعينها عن رفيقة تشاطرها ما تبقى من اليوم، وتتلمس من خلالها الطريق نحو مخيم تبيت فيه ليلتها.
وجدتها.. طفلة تصغرها قليلا، لا تزاحم الأطفال، وقد حملت قِدرا صغيرا تنتظر دورها في انكسار.
وضعت كفها على كتفها وقالت لها
- أنا مصرية.
ابتسمت الأخرى وقالت:
- وأنا فلسطينية.
أخرجت من جيبها بعض الحلوى ومنحتها لرفيقتها الجديدة، فنظرت حولها تنادي بنظراتها رفاقها ومن عجب أنهم أقبلوا ملبين فتقاسمت معهم الحلوى..
فأخرجت المصرية المزيد والمزيد من الحلوى والفلسطينية توزع ولا تستأثر لنفسها بشئ.
وبعد قليل انفردت الصغيرتان عن باقي الأطفال وسألت الفلسطينية صاحبتها الجديدة عن سبب مجيئها؛ فأخبرتها أنها جاءت لتشاركهم المصير.
نظرت إليها الفلسطينية نظرة اعتزاز وسألتها أن تساعدها في دخول مصر؛ إذ لم يعد لها أهل فقد مات كل أفراد أسرتها في إحدى غارات المحتل القذر.
شعرت المصرية بأن نبضات قلب رفيقتها تكاد تقفز فرحا عندما أخبرتها بوسيلة تدخل بها مصر..
لقد منحتها ملابسها وجعلتها تحفظ اسمها وأخبرتها بمكان الحافلةالمدرسية..
انطلقت الفلسطينية بلا تردد إلى حيث أرشدتها صاحبتها.. بينما استمرت المصرية في رحلتها نحو المجد.
أكاد أجن بنيتي أين أنت؟
وأصرخ في مشرفي الرحلة كيف تركتموها تضيع؟
وتلوح في الأفق فتاة ترتدي ملابسها، ويرقص قلبي فرحا.
ولكنها ليست ابنتي..
وتقترب الصغيرة منا تسألنا هل أنتم أقاربها؟
الجميع يلتفون حولها ويسألونها:
هل تعرفين مكانها؟
تجيب في براءة:
لقد تنازلت لي عن أسرتها، واختارت البقاء هناك مع المجاهدين.
صحت في وجهها:
إنني أبوها ولن أتركها هناك أبدا.
ابتسمت الفلسطينية وقالت:
ولماذا تتركوننا نحن هناك نواجه أولئك الطغاة؟
لماذا لم تفعلوا هكذا والعدو الصهيوني يمزقنا أمام أعينكم على شاشات التلفاز تمزيقا؟
أم أننا لسنا أبناءكم؟
ضممتها إلى صدري وطلبت منها أن تخبرني بمكان ابنتي لأحضرها وتنتظرني ريثما أعود وستكون بمثابة أخت لها.
ضحكت من جديد وقالت:
- بل سأعود معك، فما جئت إلى هنا إلا لأوصل لكم رسالة ساعدتني أنت في توصيلها يا عمي من خلال لهفتك ودمعتك ومدي قهر قلبك لفراق ابنتك، وهذا ما نعيشه نحن في كل لحظة.
واصطحبتني في رحلة عودتها لأهلها..
وعندما وصلنا أخذت أبحث عن وجهها بين عشرات الوجوه التي اعتلاها الفخر لمرأي صغيرتهم تعود
أما أنا فقد شغلني البحث عن تلك الرسائل التي تبادلتها عيون الجميع..
هناك أمر ما..
ما هذا التجمع؟
إنها مجموعة جديدة من الشهداء..
كانت نظرة الفلسطينية عجيبة..
لا لا تقولي أن ابنتي..
طأطأت وجهها وانفض الجمع يتركون لي المجال لاحتضان ابنتي..
احتضنتها بكل ما أملك من قوة، وصوت نحيبي يملأ الجنبات والآفاق.
أشارت الفلسطينية إلى الأرض بجوار صغيرتي..
نظرت فإذا بها رسالة..
رسالة لي..
لقد خطتها بدمائها..
لا تبكي يا أبي..
إنها الشهادة..
حلمنا جميعا..
وسوف يسألني ربي وأنا في نعيم الجنة هل رضيت؟
وسأجيبه أنني لن أرضى إلا ومعي أمي وأبي..
ولسوف يرضى..
ونلتقي جميعا في الجنة
إنها هديتي ومفاجأتي لك.
أليست مفاجأة سعيدة؟
تبدلت الدموع إلى ابتسامة واسعة وأنا أردد:
بلي يا بنيتي..
إنها أعظم هدية..
وأروع مفاجأة..
ارتمي الصغار في حضني وهم يرددون:
هكذا صارت حياتنا
جميعا يا عمي..
ننتظر المفاجأة.