حدث بالفعل
قصة قصيرة للأديب محمود شلبي
كتب. محمود شلبي
" حدث بالفعل "
كانت رحلة إلى القاهرة، وكان المتحف القومي للحضارة المصرية وجهتنا الثانية بعد زيارة الأهرام، كان كل شئ من حولنا يدعو إلى الانبهار التام؛ فأنت أمام حاضر متقدم متمثل في التقنيات- الحديثة التي وفرت لنا السرعة والأمان في كل تنقلاتنا وتحركاتنا داخل المتحف ومن حولك مجموعة من الشباب الغض الذين جعلوا كل هدفهم خدمة الزوار، ووظفوا كل طاقاتهم لأجل ذلك الهدف.
وفجأة وبأسرع مما تتخيل تهبط الدرج لتلج بقدميك عبر بوابة وكأنها آلة الزمان تنقلك إلى الماضي بسحره وعظمته وهيبته وجلاله.
أزمنة مر عليها الآلاف من السنين، ولكن ملوكها وحكامها ماثلون أمام عينيك لا تنقصهم سوي الروح ليتحدثوا ويقصوا أحداث الماضي وكأن التاريخ أضحى واقعا بُعث من جديد.
رهبة تكتنف المتأمل وهو في حضرة ملوك عاشوا وحكموا وشيدوا حضارة يحسدنا العالم كله عليها.
وقبل أن نغادر المكان تعرضت لموقف هزني من الأعماق؛ لقد بحثت عن مكان لأداء الصلاة فوجدت مصلي صغير بجوار الجراج فتوجهت إليه ودخلت في الصلاة، ويبدو أنني قد أخطأت استقبال القبلة فجاء أحد العمال من خلفي ووجهني الوجهة الصحيحة للقبلة، ولما انتهيت من الصلاة بحثت عن ذلك الشخص لأشكره فقد تصرف معي برقيٍّ يليق بكل ما يغلف المكان ويكتنفه من صور التحضر، أليس المتحف متحف الحضارة؟ وجب علىّ إذن أن أكون على نفس المستوى من الرقي، شعر أحدهم أنني أبحث عنه فاقترب مني واقتربت منه، وعندما علمت أنه مطلوبي أخذت أكيل له كلمات المدح والثناء، وقبل أن نفترق لمحت ذراعه فإذا بآخر شئ كنت أتوقع.. إنه صليب!
ابتسم عندما لمح بعينيّ الدهشة وقد عقدت لساني عن الحديث، فقال هو:
- نعم أنا مسيحي، ولكني لم أستطع أن أراك تصلي بالاتجاه الخاطئ.
كانت مفاجأة بالنسبة لي..
لم تكن متوقعة..
لكنها كانت مفاجأة سعيدة..
غمرت قلبي بالأمل والسرور..
وأثبتت لي أن الحضارة في مصر ميراث تتوارثه الأجيال.