طه حسين بين المطرقة والسندان
بقلم.طارقأبوحطب
لعل من جميل الأقدار أن يكون العام المنصرم 2023م هو عام عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأثرى القلوب والأسماع
طه حسين القيمة المبدعة والطاقة الخلاقة،المثابر المستنير،والأديب الوزير،والمبدع المصري العربي العالمي الكبير،النجم الثاقب الذي ماهوى،والرمز الذي جمع الأدب وما حوى،والضرير الذي رأى
التحق طه حسين بالأزهر يبتغي نفائس العلم والدر والجوهر، وتأهب لذلك بحفظ المتون، مترددا على الكتاب، متأرجحا بين الهروب والترحاب
قد أنفق في الأزهر من عمره أربعة أعوام قضاها بين كر وفر، وبين إححام وإقدام، كأنها أربعون عامًا، قضاها ضائق الصدر بالجمود واالرتابة والتجهم والكآبة،فلم ينل مشتهاه،ولم يحقق مبتغاه،وخاب ظنه فيما سعى إليه وارتجاه
وبين المرجو والمأمول،والإشراق والأفول يصف طه سني الدراسة في الأزهر بأنها الحاجز العائق الأكبر فيقول "كأنها الليل المظلم، الذي تراكمت فيه السحب القاتمة".
وفي هذه الحال تبددت الآمال،واضطربت الأقوال،فاسنشرى على أديبنا الإجحاف،وغاب التقدير والإنصاف، فلم ينل ما تمنى،واجتمع عليه الكل وتجنى،فارتد طه من غيظه وفظاظة أساتذته وشيوخه حسيرا كسيرا،فلطالما عيروه وآذوه ولقبوه بالأعمى وهم الأكفاء فكرا وعقلا وضميرا،أما هو فقد كان بنور البصيرة والعناية بصيرا
لم يكن طه حسين أعمى كما زعموا،حتى وإن سلب البصر،ولم يكن مستسلما لكن كان مشمولا مدثرا بكف القدر،لكنه لم ينج من الكيد والشر وأذي من إذا خاصم فجر
لم يكن صاحبنا ييضيق بالفقر الشديد،ولا بقصر يدِه عمّا يريد،بل كان ذا عزيمة تذيب الحديد، فقد كان الفقر شيئًا مألوفًا،وكان هو للعلم والثقافة محبا شغوفا، تجمل وتحمل، وسار على بصيرة وهدى، يخشى أن ينفرط عمره أوتضيع أحلامه سدى.
انتسب صاحبنا للأزهر يحدوه الرجاء، وانطلق ينير الأمل دربه بقبس من عزيمة وضياء، كان يرى حوله العشرات، بل المئات من تلاميذ الأزهر، أشقياء كما كان يشقى هو، وتقصر أيديهم عما يريدون،وتمتلئ نفوسهم بما يرجون ويحلمون، ولكنهم اقتنعوا أن الثراء وسعة العيش قد تعوقهم عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للاجتهاد،وهو أيضا السبب فيما يقاسون ويعانون من الصلف والجور والاضطهاد
كانت أيامه كدنياه كئيبة،و حياته مملة رتيبة، ليس فيها جديد، وثمن النبوغ والعبقرية بخس زهيد،فأنى له أن يصارع الأمواج، أوأن ينجو من أتون الخصومة واللجاج، وهو الصبي الضعيف، الذي لا يجد اللفظ اللفظ الظريف، ولا الظل الوريف فكاد أن يقضي الحياة غما، ويموت غيظا وكمدا وهما،لكنه مضى في الطريق،مثقلا بأنانية وإهمال الأخ الأكبر الشقيق،الذي لم يجد فيه حنو القلب،ولا حرص الصديق.
وانطلق صاحبنا طه حسين في الأزهر الشريف
متابعا بعد صلاة الفجر درس التوحيد لا يجلس فيه كما يجلس الطلاب بل يعامل معاملة الآبقين من العبيد.
ثم يختلف إلى درس الفقه بعد شروق الشمس، ودرس النحو بعد أن يرتفع الضحى، دروس للنحو مرة ثانية بعد الظهر، ثم يقضي وقت فراغٍ في وحدة وخضوع، في أعقاب طعامٍ لا يسمن ولا يغني من جوع.
ثم هو يغشى ردس المنطق بعد صلاه المغرب، وفي كل تلك الدروس يسمع كلامًا مكررًا ومُعادًا، وأحاديث بعيدة كل البعد عن قلبه وذوقه،ولا حظ له سوى العناء والألم من تحته ومن فوقه.
كان صاحبنا يفكّر أن أمامه ثمانية أعوامٍ أخرى عليه أن يتحمل لظاها، وفي أثناء ذلك كلّه، ذات يوم وهو جالسٌ مع أصدقائه، سمع نبأ إنشاء جامعة في القاهرة، فهم طه حسين الجامعة بأنها مدرسة ليست كالمدارس، وأن الدروس التي ستُلقى فيها لا تشبه دروس جامع الأزهر،الذي عانى فيه من أساتذته وشيوخه وقاسى
كما أن التلاميذ في تلك الجامعة لن يكونوا معممين، ولكن يلبسون الطرابيش لا العمائم، فتحمّس للالتحاق بها ودخولها والخروج من قيود الأزهر.