حطام امرأة
بقلم/ سعيد المنزلاوي
تقدم بها العمر في غير هوادة، غزا الشيب مفرق شعرها وذؤابتها، طرحت المرآة أرضًا، وأخفت وجهها بين كفيها، وراحت تنتحب في صمت. كانت الريح تعصف بشدة، فانفتح زجاج النافذة، وكاد أن يتصدع. قامت بخطوات متثاقلة تحكم غلق النافذة. كانت الريح تعوي كذئب جائع، محيلة الليل إلى سيمفونية من الأصوات المفزعة، زاد من شعورها بالخوف؛ فهي تقيم بمفردها في شقتها المكونة من أربع حجرات، جعلتها الوحدة تستغنى عن ثلاثة منها، فأوصدتها على ما فيها من أثاث وثياب كانت لأولادها، واكتفت بحجرتها المطلة على الشارع؛ لتأنس بالمارة، وبأصوات الجيران من حولها.
منذ سنوات مضت كانت الشقة تعج بصياح أطفالها، وشجارهم، وقتها كانوا صغارًا، ولأجلهم تحاملت على نفسها لكن ما إن كبروا حتى غادروها وحيدة بين جدران المنزل الكبير؛ لتعاني وحدها الوحدة والبرد والخوف والنسيان.
كانت سلواها تصفح مواقع التواصل، لا سيما حساب زوجها على الفيسبوك، طالعت صوره مع أولاده من زوجه الثانية، فثارت غيرتَها تلك البسمةُ التي تظهر في أغلب الصور، وكأنه لم يعان في حياته قط، راحت تقلب في مجموعة الصور، كان أولادها منه ضمن تلك الصور يحيطون فيها بوالدهم. زاد حنقها ونقمتها عليهم جميعًا.
- تبًا لهم، تناسوا ما صنعه أبوهم في أمهم، وراحوا يلتفون حوله في حب، وكأنه يكفلهم وحده.
كانت تتأمل ابتسامته التي تبين عن أسنانه البيضاء كانت بسمته في صفاء الثلج، ودودة وحنونة، وتذكرت كم كانت تتندر على ضحكته وتستخف بها، وكان المسكين يكتفي بأن يئد تلك البسمة عابرًا بها من انفراجة متسعة للشفتين إلى انطباقهما في كمد وأسى. كان اتساع فمه حال ابتسامته مشينًا بعض الشيء، ولكن صفاء ضحكته كان يغطي على تلك البشاعة بما يضفي عليها من عذوبة وصفاء.
لم تكن ضحكته وحدها التي تثير اشمئزازها منه، بل هندامه وطريقة كلامه. حتى آثر الصمت والعزلة؛ ليسلم من سخريتها.
كانت تراه دونها، هكذا أوهموها، مع كثرة الكلام صدقت زعمهم، فراحت تنظر إليه من علِ، حين فاض به الكيل، ترك لها البيت، وحين أيس من إصلاحها، ترك لها قرار الانفصال، وابتنى لنفسه بيتًا جديدة مع زوجة محبة، رزقه الله منها بالبنين والبنات.
وبقيت هي مع أولادها، تحمل وحدها مسئوليتهم، فقد حاولت أن تبعدهم عن أبيهم، وإن اضطرت إلى أن تقسوا عليهم، ما جعلهم يتسربون من بين يديها إلى أبيهم وزوجته، والتي وجدوا فيها عطفًا وحنانًا لم يجدوه مع والدتهم، التي راحت تندب حظها العاثر ليل نهار. حتى استقروا بجمعهم مع أبيهم، وأمست لا تراهم إلا نزرًا.
لما خلا البيت عليها، راحت تلح في طلب الطلاق، لكنها جوبهت باعتراض عائلتها، حتى تقدم بها العمر، كان أخوها الأكبر قد طمع في ميراثها، وخشي إن هي طُلقت أن تطالبه بحقها منه، وأختاها اللتان تصغرانها ببضع سنين، كانتا تخشيان انصراف الخطاب عنهما إن علموا أن لهما أختًا مطلقة. لكنها لم تفطن لحقيقة نواياهم إلا بعد أن تسربت من بين يديها العديد من الفرص التي كانت تترقبها.
تبع عواء الريح انهمار شديد للمطر، كان البرق المتسلل من النافذة الزجاجية يضيء لها أركان الغرفة، منذرًا بصوت الرعد الذي تتصدع له أرجاء نفسها المنهزمة. شعرت ببرودة شديدة تسري في أوصالها، تمنت لو كان بجانبها الآن زوجها، فيحتويها بذراعيه، وتجد في صدره الدفء والحنان. لقد كان حنونًا معها، ولكنها تعامت عن مزاياه، حتى فقدته، وأمست وحيدة بلا زوج أو عشيرة.
نهاية رقم 1:
...............
لمَّا لمْ تستطع العيش بمفردها، ذهبت إلى زوجها؛ رجته أن يعود إليها، ولو يومًا. لم تطلب منه طلاق زوجه، فقط كل ما طلبته أن يؤنس وحشتها ولو يومًا واحدًا. لمس الصدق في كلامها، لا سيما وقد شاهد فعال الزمن بملامحها، والتي كانت نضيرة يومًا ما، أمست اليوم باهتة تحكي تجاعيد وجهها ما أحدثته معها صروف الزمن والتي نالت من جمالها الشيء الكثير، إنها الآن حطام امرأة؛ فقبلها، فلا يزال لها في قلبه مكان، لم تنل منه كل تلك السنوات ما إن عادت حتى استيقظ الحنين في قلبه، فضمها إليه بشوق السنين، غافرًا لها كل ما اقترفته، وراح يوزع حبه بين زوجتيه.
نهاية رقم 2:
...............
طغت عليها حاجتها إلى البعل، وحين أيست من زوجها؛ طلبت منه الطلاق، فطلقها. وانتظرت من يطرق بابها للزواج، لكن أحدًا لم يفعل. راحت تعرض نفسها كبضاعة مزجاة، لعلها تصادف من يعجب بقوامها وجمالها، فيتقدم للزواج منها؛ ولكنهم نظروا إليها كسلعة رخيصة، وأمام نداء الجسد، زلت قدمها في سوق المتعة. لما انكشف أمرها حملت متاعها، وارتحلت حيث لا يعلم أحد مكانها.
نهاية رقم 3:
...............
قضت ما تبقى من عمرها تستدر عطف بنيها، فقد لفظها أهلها، ونأى عنها زوجها، كانت تتسول ود أبنائها وعطفهم، فكانوا يزورونها من حين للآخر، كانت تشعر بجفوتهم وثقل خطواتهم عن زيارتها. لكنها قنعت بالقليل من الود والكفاف من العيش. حين ضاقت بها ذات اليد، أجرت شقتها ذات الحجرات الأربعة، واستأجرت لنفسها حجرة على سطح إحدى البنيات القديمة، كانت الغرفة من السوء بحيث لم تمنع عنها غائلة الزمهرير وتسرب مياه المطر إلى حجرتها الصغيرة. تقوست فوق أريكتها، ضامة ركبيها بذراعيها. كانت أسنانها تصطك محدثة دويًّا شديدًا، كادت من شدة الاصطدام أن تنخلع أو تتحطم. راحت تعض أناملها ندمًا، وهي ترى شريط حياتها يمر بين عينيها أشباحًا تقض مضجعها.