أيامي في الجزائر
شنطة سفر (1)
دكتور عزوز علي إسماعيل
ظل شبل الوادي لغزاً محيراً عبر صداقته لي بالفيس بوك لفترة طويلة من الزمان إلى أن تأكدت منه بالفعل أنه يعمل في
كلية الآداب واللغات بالوادي "وادي سوف" بالجزائر، فقد أخبرني شبل الوادي قبلها بعدة أشهر أنني سأكون معهم
في الملتقى الدولي الذي سيعقد في الجزائر في نهاية عام 2023 الخاص بطلاب الدكتوراه؛ وذلك لإلقاء عدد من
المحاضرات لطلاب الدكتوراه في كلية الآداب واللغات بجامعة الشهيد حمة لخضر بالوادي بالجزائر الحبيب، وبالفعل قد
حدث وأصبح هناك اتصال بيني وبين قسم اللغة العربية وآدابها بالكلية خاصة الدكتور يوسف العايب المسؤول الأول
عن عقد الملتقي بالكلية، وظلت الأمور تسير في مسارها الصحيح إلى أن أرسلت الدعوة الرسمية ومعها الموعد
المحدد للسفر والإقامة هناك فضلاً عن تذاكر السفر ذهاباً وإياباً، والتي من خلالها أستطيع أن أنهي عدداً من
الإجراءات الخاصة بالسفر. جاءت الدعوة عبر الإيميل الخاص بي وفيها كُتب "السيد المحترم: عزوز علي إسماعيل.
المعهد العالي للغات والترجمة الفورية. تحية طيبة وبعد. يتشرف السيد العميد (ة) كلية الآداب واللغات بدعوتكم
للمشاركة في ملتقى طلبة الدكتوراه الدولي المتعدد الاختصاصات، ضمن أشغال الورشة العلمية الموسومة بـ: "الضبط
المنهجي في الدراسات الأدبية والنقدية" والتي ستقام في الفترة الممتدة من 11/ 12/ 2023 إلى 13/ 12/2023 في
رحاب قسم اللغة والأدب العربي بجامعة الشهيد حمة لخضر بالوادي. في
انتظار تأكيد مشاركتكم معنا. نرفع إليكم جميل عبارات الترحيب ونتمنى لكم مشاركة فعالة وإقامة طيبة. توقيع الدعوة
باسم: الأستاذة الدكتورة دلال وشن عميد الكلية ممهوراً بخاتم البلاد الذي حوى بداخلة: الجمهورية الجزائرية
الديمقراطية الشعبية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة الوادي.
على إثرها أخبرت مكان عملي وعميد المعهد العالي للغات والترجمة الفورية بحكم أنني رئيس قسم اللغات، وهو
الأستاذ الدكتور مصطفى العبادي، ولم يرفض الرجل، بل وافق، ولكن كان لديه بعض التحفظات على أمور تتعلق
بالمحاضرات وأشياء أخرى بيروقراطية تتعلق بسفر عضو هيئة تدريس إلى خارج البلاد وإجراءات الأمن وأشياء
أخرى، في النهاية كانت موافقته على أن حين العودة أقدم له شهادة المشاركة وخاتم الخروج والدخول إلى أرض
الوطن. من هنا كانت سعادتي الغامرة أن الأمر بات على وشك القبول والسفر، ولكن قبل ذلك لا بد وأن أحصل على
تأشيرة السفر من السفارة الجزائرية بالقاهرة، بحثت عبر الانترنت على موقع السفارة في القاهرة فوجدتها في 14 ش
البرازيل متفرع من ش 26 يوليو الزمالك بالقاهرة. بالفعل ذهبت اليوم التالي مباشرة وكان يوم الأربعاء،
مصطحباً معي كل أوراقي كعادتي حين أذهب إلى أي مصلحة حكومية، ولكنهم طلبوا مني موافقة جهة العمل، فعدت
إلى عملي في اليوم نفسه وأخذت من مكان عملي الموافقة بشق الأنفس، وعدت في اليوم نفسه إلى السفارة فقالوا
عليك أن تذهب إلى بنك قطر القريب من السفارة وتسدد ثمن التأشيرة، بالفعل كان ذلك في اليوم التالي ودفعت 1600
جنيه في حساب السفارة في البنك، وعدت لأقدم الأوراق متضمنة الدعوة الكريمة من الجامعة وتذاكر السفر التي باقي
عليها خمسة أيام فقط، واستغرب القنصل المحترم من ذلك قائلاً التأشيرة تحصل عليها في خلال عشرين يوماً، ولكنه
وبعد أن أوضحت له اشتياقي للجزائر وزيارة الجزائر الحبيب، خاصة وهي زيارة علمية قال الرجل عليك أن تأتي بعد
يومين فشكرته وبالفعل بعد يومين عدت فوجدت جواز سفري قد تجمل بتأشيرة الجزائر فقبلتها وقلت الحمد
لله أنني سوف أزور الجزائر بلد الشهداء والعلماء، وكنت أول مرة أسمع كلمة "وادي سوف" التي نطق بها القنصل
الجزائري، قائلاً: أنت ذاهب إلى منطقة تسمى "وادي سوف" رغم أن وادي سوف لم تكن في التأشيرة أو التذاكر أو
حتى الجامعة ففيها كلمة الوادي فقط.
أصبحت موافقة العميد والتأشيرة معي وتذاكر الطيران باقي فقط تجهيز حقيبة السفر "الشنطة" وقد آثرت آلاء ابنتي
الوسطى ومعها هبة الله ابنتي الصغرى على أن أشتري حقيبة جديدة للسفر، قلتُ ليس هناك داع لذلك، فإن الحقيبة
القديمة تكفي الغرض، وجدت من ابنتيَّ إصراراً على شراء حقيبة جديدة، فوضت لهم الأمر في ذلك وذهبا معاً دوني إلى
سوق "التوحيد والنور" ومعهم مبلغ من المال لشراء الحقيبة "الشنطة" واختارا حقيبة قيمة، فقلت لهم أكيد غالية
الثمن فقالا لي أنك تلبس أشيك حاجة دائماً ولا بد أن تكون معك شنطة أحلى حاجة، فضحكت ووافقت على أمرهما بعد
أن أعلماني بالمبلغ الخاص بالشنطة وكان 1400 جنيه. حزمت أمتعتي في حقيبتي الصغرى والكبرى؛ الصغرى حوت
جواز السفر ومبلغ 15 ألف جنيه وتذاكر السفر والدعوة الكريمة والكبرى حوت بعض ملابسي الرسمية وكانت رغبة
ملحة من ابنتي الكبرى يمنة الله عزوز أن تكون معي حتى المطار، ولكنني ولسبب تأخر السفر ليلاً رجوتها أن
تودعني هي وآلاء عزوز على ناصية شارع العشرين المتفرع من فيصل الجيزة، ولو أنني أعلم بحزن ابنتي يمنة
الله على عدم اصطحابي إلى المطار لكنت أخذتها معي إلى المطار، تعودت من ابنتي يمنة على ألا تبوح بالمكنون
ودائماً تلوذ بالصمت، الأمر الذي استوحيت منه دراسة مطولة خرجت في كتاب تحت عنوان "الصمت في الرواية
العربية" ومن الطبيعي أن يكون الإهداء لها قلت في الإهداء: "إلى ابنتي الكبرى يُمنة الله عزوز، صمتها الدائم أوحى
لي بداسة الصمت في الرواية العربية" حتى نكون صادقين مع أنفسنا ومع الغير ومع الحياة. ولكنني كنت على يقين
أن الأسرة سوف تستقبلني في المطار حين عودتي من الجزائر بعد أسبوع من السفر، هذا كان يقيني.
وصلت المطار مبكراً قبل ميعاد الإقلاع بأربع ساعات تقريباً، أصبحت هذه عادتي منذ أن فقدت السفر على الطائرة
المتجهة من الكويت إلى السعودية لعمل العمرة ومن يومها وأن أخشى ذلك فتعودت أن أكون مبكراً في المكان والزمان.
ظللت جالساً في أحد مقاهي المطار حتى اقترب موعد الدخول وهو قبل الإقلاع بساعتين لنتمكن من ختم الجواز ووضع
الأمتعة في أماكنها، ولكن حدثت بعض الأمور الغريبة التي تصادفني في أي شيء، لا بد وأن تكون هناك بعض
المنغصات في حياتي كلها قبل إنجاز الأشياء المهمة، ولكن عزائي أن الله سبحانه وتعالى لا يتركني في مثل تلك
الأمور، وأنه يجبر كسري دائما فله الحمد من قبل ومن بعد. وقفت في طابور طويل من المسافرين، أدخلت أمتعتي
أمامي على السير، وأتفاجأ أن أمين الشرطة الواقف على جهاز الدخول يقول لي أنت معاك فلوس في الشنطة
دي. قلت له نعم معي مبلغ 15 ألف جنيه، قال هذا ممنوع لن تأخذ معك إلا 5 آلاف جنيه فقط، فتذمرت من الأمر
وأوقفني كثيراً، وكنت في عجب عجاب مما فعله، قلت له ما الحل؟ قال عليك أن تأخذ من المبلغ 10 آلاف وتضعهم في
البنك الخاص بك وتأخذ فقط معك 5 آلاف وأنت مسافر في يدك لا أكثر من ذلك. تركته خوفاً من مرور وقت الطائرة
وظللت أبحث عن بنكي الذي عليه حسابي كثيراً، فلم أجده قالوا لي خارج المطار بمسافة عند مجمع البنوك، بسرعة
خرجت واستقليت سيارة أجرة بمبلغ كبير لأصل إلى المكان وتم بالفعل وضع 10 آلاف في حسابي في البنك، ولم يتبق
معي إلا مبلغ 5 آلاف فقط، وحين عدت إلى المكان لأدخل أصرَّ الشرطي على رؤية وصل إيداع المبلغ في البنك، فقد
ترك الجميع وكان مركزاً معي، قلت له: هكذا يتعامل الجميع، قال نعم، وكان بجواري أحد الأشخاص
وهو عضو في مجلس الشيوخ، وكان معه مبالغ مالية لم يسأل عنها. قلت في نفسي نسمع كل يوم عن هروب الملايين
والمليارات خارج البلاد، كنت أتمنى أن يكون هذا الشرطي الذي أوقفني وأرغمني على إعادة المبلغ إلى البنك أن
يجيبني عن أسئلة عديدة، أولها تلك الأموال المسروقة من قوت هذا الشعب المطحون والتي تمر مروراً عبر هذه
البوابة دون قيد أو شرط، كنت أود أن أسأله عن الممياوات التي نتفاجأ بأنها ضبطت في مطارات أخرى، وقد خرجت
من مطار القاهرة وما أدراك حجم الممياوات الفرعونية بعيداً عن الذهب والآثار المختلفة. وددت أسئلة عن حالنا الذي
وصلنا إليه ولكنني التزمت الصمت لتكتمل الرحلة على خير.
الأمر الآخر الذي أثار حفيظتي هو أننا وقبل دخول طيارة الخطوط الجوية الجزائرية كان لزاماً على جميع المسافرين
خلع الأحذية وهذا لم أره من قبل في أي مطار من مطارات العالم الذي طفت أركانه، وقد حدث بالفعل خلعت نعليَّ لأنني
بالوادي المقدس، وأمسكت بهما، وكذلك حزام البنطلون الجينز الذي كنت ألبسه، ومرت الأمور وما كان يصبرني على
كل تلك الأهوال من أجل السفر، أنني سوف أزور بلد أحبها وأعشقها وهي بلد الشهداء والعلماء مليون ونصف المليون
شهيد ضحوا من أجل كلمة عظيمة هي "الحرية" ما أغلاها وما أقساها على النفس. أما الشيء الآخر الذي صبَّرني
على تلك الأمور هو أنني أحسست بأنني سوف ألتقي بطيف حبيبتي "سمر" عبر تلك
الرحلة أو حتى من نافذة الطائرة.