هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟.. تأملات في قيمة العلم والمعرفة
بقلم: حسن سليم
في لحظة تأمل عميقة، يفتح الإنسان صفحات الحياة، ليقرأ فيها حروف الزمن المكتوبة بالحكمة والدروس، ويتساءل في أعماقه عن الفرق بين من يسير في دروب العلم والمعرفة ومن يقف عند حدود الجهل. تأتي الآية الكريمة من سورة الزمر، لتلقي ضوءًا ساطعًا على هذا التساؤل العميق: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟»
هذه الآية ليست مجرد تساؤل عابر، بل هي دعوة للتفكر والتأمل في قيمة العلم وأثره على الفرد والمجتمع. إنها تطرح أمامنا صورة واضحة المعالم، تفرق بين من يعيش في نور المعرفة ومن يتخبط في ظلمات الجهل، بين من يرى بعين العقل ومن يحيا تحت سقف الغفلة.
العلم هو النور الذي يهدي الإنسان في ظلمات الحياة. عندما يشرق نور العلم في قلب الإنسان، ينقلب الليل إلى نهار، وتصبح الدنيا بحجم أكبر مما نراه بالعين المجردة.. العلم يوسع الآفاق ويعمق الفهم ويمنح الإنسان قدرة على التحليل والتمييز.. من يتسلح بالعلم، يكون قادرًا على استكشاف الأسرار المخفية خلف الأحداث اليومية، ويستطيع أن يرى الصورة الكبرى للحياة.
في ضوء العلم، تصبح الحياة أكثر وضوحًا وأقل تعقيدًا.. فالشخص الذي يمتلك العلم، ينظر إلى الحياة من زاوية مختلفة، زاوية تعطيه فهمًا أعمق لذاته وللعالم من حوله.. هذا الفهم يمنحه طمأنينة وراحة نفسية، لأنه يستطيع أن يفسر ما يحدث حوله، ويفهم الأسباب الكامنة خلف الأحداث.
وفي المقابل، يأتي الجهل كظلام دامس يحجب الرؤية ويقيد الإنسان في سجن من الضياع والتيه.. فالجاهل يعيش في عالم ضيق الأفق، محدود الرؤية، يتخبط في اتخاذ قراراته، يتأثر بكل ما يدور حوله دون أن يملك الأدوات لفهمه أو السيطرة عليه.. الجهل يجعل الإنسان عاجزًا عن رؤية الأمور كما هي، بل ينظر إليها من خلال مرآة مشوهة تعكس له الحقائق بشكل مغلوط.
الجهل ليس فقط افتقارًا للمعلومات، بل هو حالة من الانغلاق الذهني والروحي، يجعل الإنسان غير قادر على التفكر والتدبر.. الجهل يعمي البصيرة، ويغلق الأبواب أمام الفهم الحقيقي للوجود.. وكم من أمة تراجعت وتأخرت بسبب تفشي الجهل بين أفرادها، حيث فقدوا القدرة على الإبداع والتطوير.
المعرفة هي القوة التي تمكن الإنسان من تحويل الأحلام إلى حقائق، والأفكار إلى إنجازات.. من يمتلك العلم يمتلك القدرة على التأثير في مجريات الأحداث، ويكون له دور فاعل في صنع القرارات التي تحدد مسار حياته وحياة من حوله.. فالعلم يمنح الإنسان القدرة على القيادة، سواء كانت قيادة نفسه أو قيادة الآخرين.
العلم هو القوة التي تبني الحضارات، وتطور الأمم، وترتقي بالبشرية إلى مستويات أعلى من الوعي والإدراك.. وبدون العلم، تصبح الأمم عرضة للتدهور والضعف، لأنها تفتقر إلى الأساس الذي تقوم عليه كل نهضة.
من هنا، يتجلى الأثر الاجتماعي للعلم على الفرد والمجتمع.. الإنسان المتعلم لا يكتفي بنور العلم لنفسه، بل يضيء به الطريق للآخرين.. هو كالشمعة التي تحترق لتنير للآخرين طريقهم، وكالمصباح الذي يضيء حتى في أحلك الظروف.. المجتمع الذي يقدر العلم ويحترمه، يكون مجتمعًا متطورًا، قادرًا على مواجهة التحديات، وقادرًا على النمو والازدهار.
العلم يخلق حالة من التواصل الفكري بين الأفراد، يجعلهم قادرين على الحوار والنقاش بأسلوب حضاري، يفهمون بعضهم البعض، ويعملون معًا لتحقيق أهداف مشتركة.. المجتمع المتعلم هو مجتمع متماسك، يعرف أفراده حقوقهم وواجباتهم، ويسعون لتحقيق العدالة والرفاهية للجميع.
من هذا المنطلق، نجد أن التعليم هو البوابة الأولى للنهضة والازدهار.. الأمة التي تستثمر في التعليم، هي أمة تستثمر في مستقبلها.. فالتعليم لا يعني فقط تعلم القراءة والكتابة، بل هو رحلة طويلة لاكتساب المعرفة في مختلف المجالات.. التعليم هو الذي يفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة، ويمنحه القدرة على التفكير النقدي والتحليل.
الأمة التي تضع التعليم على رأس أولوياتها، هي أمة تحمي نفسها من الوقوع في فخ التخلف والتبعية.. هي أمة تخلق جيلاً قادرًا على الابتكار والإبداع، قادرًا على التعامل مع تحديات العصر بمرونة وذكاء.. التعليم هو الذي يمنح الأمة القدرة على الاستقلالية، لأنه يخلق جيلًا واعيًا قادرًا على اتخاذ قراراته بنفسه، دون التأثر بما يملى عليه من الخارج.
في هذا السياق، تأتي الآية الكريمة «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» كدعوة صريحة لكل فرد لطلب العلم.. هي دعوة للبحث والتعلم والاستفادة من كل ما يقدمه العالم من معارف وخبرات.. الآية لا تطرح السؤال فقط، بل تقدم الإجابة ضمنًا، فالعلماء هم الذين يرتقون في الدرجات، وهم الذين يحظون بمكانة خاصة في الدنيا والآخرة.
العلم ليس حكرًا على أحد، بل هو حق لكل إنسان يسعى إليه.. في ديننا الإسلامي، نجد أن أول كلمة نزلت على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كانت «اقرأ»، وهي دعوة صريحة لطلب العلم والاستزادة منه.. فالعلم هو الذي يرفع الإنسان درجات ويجعله يتقرب إلى الله بفهم أعمق لأسرار الكون والحياة.
في النهاية، يتضح لنا أن العلم هو النور الذي يبدد ظلمات الجهل، وهو القوة التي تبني المجتمعات، وهو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والازدهار.. «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» هو سؤال يحمل في طياته حكمة عظيمة، تذكرنا دائمًا بأن العلم والمعرفة هما الأساس في تحقيق حياة أفضل للفرد والمجتمع.
فلنكن دائمًا من الساعين إلى العلم، ولنفتح قلوبنا وعقولنا لتلقي المعرفة، لأنها السبيل الوحيد لنعيش حياة مليئة بالوعي والفهم والإدراك.. العلم هو الإرث الحقيقي الذي نتركه للأجيال القادمة، وهو النور الذي يجب أن نحمله بين أيدينا لنبني به مستقبلًا أفضل.