8 سبتمبر اليوم العالمي.. «محو الأمية» هو السلاح السري لتحرير العقول
بقلم: حسن سليم
* مستشار إعلامي
في عالم يتزايد فيه الاعتماد على المعرفة والمعلومات، يصبح محو الأمية أكثر من مجرد قدرة على القراءة والكتابة؛ إنه حق إنساني أساسي وأداة ضرورية للتمكين الشخصي والاجتماعي. في الثامن من سبتمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي لمحو الأمية، وهي فرصة للتفكير في التقدم الذي تم إحرازه، والتحديات التي لا تزال قائمة، والمسؤوليات التي تقع على عاتقنا جميعًا لضمان أن تكون هذه المهارة متاحة للجميع دون استثناء.
مفهوم الأمية في العصر الحديث
تطور مفهوم الأمية مع تطور المجتمعات البشرية. ففي البداية كان يُنظر إلى الأمية على أنها مجرد عدم القدرة على قراءة النصوص المكتوبة. ولكن في عصرنا الحالي، ومع تزايد تعقيد الحياة اليومية واعتمادنا الكبير على التكنولوجيا، اتسع هذا المفهوم ليشمل القدرة على فهم واستخدام المعلومات في مجالات متعددة مثل الكمبيوتر، والإنترنت، والمالية، والصحة.
تتطلب الحياة اليومية اليوم مهارات قراءة وكتابة متقدمة، بما في ذلك القدرة على تفسير وتحليل النصوص المعقدة، وفهم التعليمات الرقمية، والتفاعل مع المؤسسات الحكومية والخاصة عبر الإنترنت. لذا، فإن محو الأمية لم يعد يعني فقط القدرة على القراءة والكتابة، بل القدرة على المشاركة الفعالة في المجتمع والاقتصاد الرقمي.
الأمية: عائق أمام التنمية
تعتبر الأمية واحدة من أكبر العوائق التي تحول دون تحقيق التنمية المستدامة في العديد من الدول. فالأشخاص الذين يفتقرون إلى القدرة على القراءة والكتابة غالبًا ما يجدون صعوبة في الوصول إلى الفرص الاقتصادية والاجتماعية، فهم غير قادرين على قراءة إعلانات الوظائف، أو كتابة طلبات التوظيف، أو حتى فهم العقود والوثائق القانونية.. وهذا ما يجعلهم عرضة للاستغلال ويحد من إمكاناتهم في تحسين ظروفهم المعيشية.
تؤثر الأمية أيضًا على الصحة العامة، فالأشخاص الذين لا يستطيعون قراءة المعلومات الصحية الأساسية، أو تعليمات الأدوية، أو الإرشادات الوقائية، يواجهون مخاطر أكبر للإصابة بالأمراض وللمضاعفات الصحية. وعلى مستوى أوسع، تشكل الأمية عائقًا أمام تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، حيث تكون الفئات الأقل تعليمًا أقل قدرة على المشاركة الفعالة في العملية الديمقراطية واتخاذ القرارات المستنيرة.
محو الأمية: أداة للتمكين
يعد محو الأمية أحد أهم الأدوات التي يمكن أن تساهم في تمكين الأفراد والمجتمعات. فالأفراد الذين يمتلكون القدرة على القراءة والكتابة يكونون أكثر قدرة على المطالبة بحقوقهم، وتحسين ظروفهم المعيشية، والمساهمة في تنمية مجتمعاتهم. ويعتبر التعليم، ولا سيما محو الأمية، من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى تعزيز المساواة بين الجنسين، حيث يتيح للفتيات والنساء فرصًا أكبر للوصول إلى التعليم العالي والوظائف الجيدة، مما يسهم في تقليل الفجوة بين الجنسين في المجتمعات.
التحديات الراهنة في محو الأمية
على الرغم من التقدم الكبير الذي تم إحرازه في مجال محو الأمية على مستوى العالم، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعترض طريق تحقيق الأمية الصفرية. ففي العديد من الدول النامية، لا يزال التعليم غير متاح للجميع، خاصة في المناطق الريفية والنائية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الأزمات الاقتصادية والسياسية والصراعات المسلحة إلى تعطيل التعليم وتجعل من الصعب على الأفراد، وخاصة الأطفال، الوصول إلى التعليم.
كما أن انتشار التكنولوجيا الرقمية وتزايد الاعتماد على الإنترنت قد أضاف أبعادًا جديدة لمفهوم الأمية. فاليوم، لا يكفي أن يكون الفرد قادرًا على القراءة والكتابة فحسب، بل يجب أن يكون قادرًا أيضًا على التعامل مع التكنولوجيا وفهم المخاطر المرتبطة بالاستخدام غير الآمن للإنترنت.
جهود دولية لمحو الأمية
تتضافر جهود الحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني للتصدي لمشكلة الأمية على مستوى العالم. من بين هذه الجهود، تأتي مبادرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التي تلعب دورًا حيويًا في دعم برامج محو الأمية في مختلف الدول، وخاصة في المجتمعات التي تعاني من أعلى معدلات الأمية.
كما أن هناك العديد من المبادرات المحلية والإقليمية التي تهدف إلى تعزيز فرص التعلم مدى الحياة، وتحسين جودة التعليم الأساسي، وتقديم الدعم للأفراد الذين يعانون من الأمية. وتتضمن هذه المبادرات توفير المواد التعليمية، وتنظيم حملات توعية، وتقديم دورات تدريبية للمربين والمعلمين.
قصص نجاح: عندما يغير محو الأمية حياة الأفراد
في مختلف أنحاء العالم، هناك قصص نجاح ملهمة لأفراد تغلبوا على الأمية وأصبحوا نماذج يحتذى بها في مجتمعاتهم. هؤلاء الأفراد لم يتعلموا فقط القراءة والكتابة، بل اكتسبوا الثقة والقدرة على تغيير حياتهم وحياة من حولهم.
في إحدى القرى النائية في الهند، كان هناك رجل مسن يدعى "رام" لم يتعلم القراءة والكتابة في طفولته بسبب الفقر وعدم توفر المدارس. ولكن عندما أتيحت له الفرصة للانضمام إلى برنامج محو الأمية في سن الستين، قرر أن يتعلم القراءة والكتابة. بعد إتمامه للبرنامج، أصبح "رام" قادرًا على قراءة الصحف والمجلات، مما جعله أكثر وعيًا بما يحدث في بلده والعالم. لم يتوقف "رام" عند هذا الحد، بل أصبح مرشدًا في مجتمعه، يشجع الآخرين على الانضمام إلى برامج محو الأمية.
في مصر، هناك قصة نجاح أخرى لشابة تدعى "فاطمة"، التي كانت تعاني من الأمية حتى بلغت العشرين من عمرها. ولكن بفضل مبادرة محلية لمحو الأمية، تمكنت "فاطمة" من تعلم القراءة والكتابة. هذه المهارة الجديدة فتحت لها أبوابًا جديدة، حيث تمكنت من بدء مشروع صغير لبيع الملابس في قريتها، مما ساعدها على تحسين ظروفها المعيشية والاعتماد على نفسها.
الدور المستقبلي للتكنولوجيا في محو الأمية
لا يمكن الحديث عن محو الأمية في القرن الحادي والعشرين دون التطرق إلى دور التكنولوجيا. فقد أحدثت التكنولوجيا ثورة في طرق التعليم والتعلم، وساهمت في جعل التعليم أكثر تفاعلًا وشمولية. من خلال الهواتف الذكية والإنترنت، أصبح بإمكان الأفراد في المناطق النائية الوصول إلى مواد تعليمية ودورات تدريبية عبر الإنترنت، مما يساعد في سد الفجوة التعليمية.
كما أن هناك العديد من التطبيقات التعليمية التي تم تطويرها خصيصًا لتعليم القراءة والكتابة للأميين. هذه التطبيقات تعتمد على تقنيات التفاعل والصوت والصورة، مما يجعل عملية التعلم أكثر جاذبية وفعالية. وقد أثبتت الدراسات أن هذه الأدوات التكنولوجية يمكن أن تساهم بشكل كبير في تحسين معدلات محو الأمية، خاصة بين البالغين الذين لم تتاح لهم فرص التعليم في صغرهم.
إن محو الأمية ليس مجرد هدف نبيل، بل هو ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة والشمول الاجتماعي.. وإن التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا في هذا المجال تتطلب منا جميعًا أن نتكاتف للعمل على توفير التعليم للجميع، بغض النظر عن جنسهم أو أعمارهم أو مكان إقامتهم.
علينا أن نواصل تعزيز الجهود الرامية إلى محو الأمية، سواء من خلال المبادرات الحكومية أو عبر منظمات المجتمع المدني والشراكات الدولية.. علينا أن نستمر في ابتكار طرق جديدة لجعل التعليم متاحًا للجميع، وخاصة للفئات الأكثر ضعفاً. وعلينا أن نعمل على نشر الوعي بأهمية محو الأمية، ليس فقط كوسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية، بل كحق أساسي لكل إنسان.
في اليوم العالمي لمحو الأمية، دعونا نتذكر أن كل حرف يتعلمه فرد جديد هو خطوة نحو مستقبل أفضل، ليس فقط لذلك الفرد، بل لمجتمعه وللعالم بأسره.. فلنكن جميعًا جزءًا من هذا الجهد العالمي لضمان أن تكون الأمية مجرد ذكرى من الماضي، وأن يكون المستقبل مليئًا بالمعرفة والفرص للجميع.