recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إعلان

الاغتراب الذاتي في قصيدة "أغنية حزينة" للشاعر الدكتور طارق أبو حطب

 الاغتراب الذاتي في قصيدة "أغنية حزينة" للشاعر الدكتور طارق أبو حطب       



          

كتب/ سعيد المنزلاوي

العالم الشعري للشاعرالدكتور طارق أبو حطب، عالم ثري تجوب فيه بين أفانين القول، تراه في تجاربه الذاتية، يحكي عني وعنك، فشعره مرآة يجد فيه المتلقي نفسه، وتظن أنه يحكي عنك، ويسرد واقعك. فهاك النص فالتقي فيه بنفسك. 


 عتبة العنوان:

 اللفظة الأولى "أغنية"، والأغنية رفيقة الإنسان، تعبر عن شتى المشاعر، تصاحبه حال فرحه وحزنه وشوقه وأمنه وخوفه، فلا يكاد يمر به موقف ليس له فيه أغنية تعبر عنه؛ تداوي جرحه أو تخبر عن أوجاعه أو يسرح معها حال حبه وشوقه وهيامه.

 وجاءت لفظة "أغنية" نكرة يخبر بها عن مبتدأ محذوف، تتراوح الإشارة إليه ما بين القريب والبعيد. وجاء النعت ليحدد لنا لون هذه الأغنية وطبيعتها، فهي أغنية حزينة، والحزن بلونه القاتم يصبغ هذا النص بدءًا من عتبة العنوان، والتي تمثل الإطار الذي يحدد ماهية التجربة وطبيعتها، وحتى نهايتها.

 إن الأغنية إنما تنشد وتتردد وتغنى معبرة عما يعتمل بالنفس، وما بها من مشاعر وأحاسيس، فإذا كانت حزينة، فإن الشاعر يمتح من معين بئر دفين من أعماق ذاته المكلومة ونفسه الجريحة. ولذا فالقصيدة تنم عن ذات حزينة، لازمها الحزن، حتى أمسى يتردد كما تتردد الأغنية والنفس حال الحزن، ليست تجد في الغناء سلواها، ولكن الغناء هنا هو حكاية عنها، ووصف لحالها. 

 إن العنوان يهيئ للمتلقي الجو العام للنص، والذي يقطر حزنًا وأسى، وتخرج آهاته موجعة ومؤلمة. فما هو منبع هذا الحزن، وما هي أصداؤه التي تكاد أن تتصدع لها جنبات النص وأركانه من مبدئه إلى نهايته؟

أفكار القصيدة الرئيسة

 القراءة المجملة للنص، تمدنا بمحاور يدور النص في دروبها، فنجد محور البُعد، يترجم عنه قوله:

- تناءت خطانا

- الجموع الشريدة

ومحور التيه والضياع، ويفصح عنه قوله:

- استباه الزحام

- وتاه اللقاء

- جفانا الغمام

- وضاعت رؤانا

ومحور الحزن ويتجلى في قوله:

- وناح الحمام

- رماد اللقاءات

- لحنًا شجيًّا

ومحور البحث عن الذات في قوله

- أعدنا إلى الفجر

- خذنا إلى الدرب

- أعدنا إلينا

وكل تلك المحاور هي صور ومظاهر للاغتراب الذي يهيمن على الذات.

بين يدي النص:

 العتبة الأولى، والتي يستهل بها الشاعر أغنيته الحزينة:

(تناءت خطانا)

 إن القصيدة تبدأ من جغرافية مكانية وزمانية في آن واحد؛ فالبُعد بينهما يحدث في الزمان وفي المكان، ويحكي انفصامًا وبُعدًا بين الشاعر والآخر؛ حيث يُسبقُ التنائي بالتداني، فثمة انفصام بين الطرفين وتباعد بينهما. وإسناد التباعد للخطا، يدل على اختلاف الوجهة والغاية والمشرب، سار كل منهما نحو طريق يغاير الطريق الآخر. ويمضيان كلٌّ إلى غايته. وحين تختلف الغايات، وتتباين المقاصد، يكون البعاد.

 إن استهلال النص بهذه الجملة وفي زمنها الماضي، يجعل منها قصة سردية بدأت من لحظة النهاية.

 ولعل غلبة الأفعال الماضية على الأفعال على الأفعال المضارعة في الحضور يجعل من النص اجترارًا للحظة ماضية، لا يزال يتردد صداها في الحاضر، ولا حيلة له إلى تغييره أو التصرف فيه.

 ثم يعرض لأسباب ذلك الانفصام في العلاقة:

(وشوق السنين استباه الزحام) 

 إنه يحكي ضياعًا آخر، ضياعًا بدده الزحام.

 أي زحام يقصد؟ وما كنه هذا الزحام الذي سبى أشواقه وقيدها، ومنعها عن البوح والنزوع؟

 وفي قوله:

(ولاح الغروب شخوصا حزينة

وضاعت رؤانا)

 تصوير للحظة الغروب بالشخوص الحزينة، ما يجعل من الغروب مثيرًا من مثيرات الحزن؛ حين يغلفه الليل بغلالة كثيفة من الظلمة القاتمة. إنها صورة تستيقظ فيها كوامن الحزن والأسى. وغروب هذه صورته، تغيب فيه الرؤى وتختلط وتداخل وتختفي المعالم. وعندها:

(وتاه اللقاء وناح الحمام)

 ثمة ترابط بين التيه ونوحِ الحمام، وهي تيمة عبَّر فيها الشاعر عن لهيب الحب ولوعة الفراق. إن التيه خروج ورحيل وذهاب في الأرض، فالحيرة ضلال. أما اللقاء، فيسبقه فراق أو غياب طويل. فالشاعر يؤكد على طول البعاد واستمرار الفرقة، وديمومة الانفصال، والتي تستغرق الزمن بأجزائه الثلاثة، في جملة تجتمع فيها الأضداد؛ لتباعد ما بين طرفيها. فاللقاء تلاق بعد غياب طويل، ولكن هذا التلاقي وأده التيه ورده. إن كل ما في النص ينذر بالرحيل والبعاد والفراق، ولذا حق للحمام أن ينوح.

 ويرتبط بالتيه الجوب والترحال:

(وجبنا المسافات)

 جاء بالمسافات جمعًا؛ ليدل على طول السفر وبعده، وعبر عن السفر بالفعل (جاب)، والذي يعني القطع، وكأنه ينحت المسافات نحتًا. وترتبط بالجوب والسفر والترحال معاناة الذات، يشي بها توالي الجمل الفعلية التي تحكي تلك المعاناة:

(نشدو ضياعا

ونشكو التياعا)

ويكون الحال:

(ونحكي لطيف السراب

 احتراقا)

 بين الطيف والسراب علاقة تلازمية، فالطيف خيال طائف في النوم، والسراب هو ذلك المظهر الخادع للماء عندما يشتد حر الهجير. وفي إضافة الطيف للسراب، تصطبغ الصورة بغلالة من الرمز، توغل في التخفي والإبهام، وفي توجه الشاعر إليه بالبوح والنواح، إشارة إلى ما يعيشه من وهم زائف، وخداع، إنه يسعى إلى وهم، لم يجن منه إلا السراب.

 ثم يقول:

(ونسكب في جوفِ أحلامنا الضائعات    

الأماني)

 إن إضافة (جوف) إلى الأحلام الضائعات، يجعل منها بُعدًا غائرًا، ووسم الأحلام بالضائعات وتقديمها على الأماني يجعل منها مباغتة مفجعة، تمسي معها الأماني طيف سراب.

(فنغدو كأزهارنا الذابلات

 جفانا الغمام)

 إنه يرسم صورة للفناء والجدب والعدم، إنه يحيا الحلم المستحيل، والأمنية المستحيلة.

ثم يأتي الاسترجاع؛ فيغلق النص على نفسه فيما يشبه الدائرة:

(ونذكر ما كان من أمسيات الغرام 

ونحثو رماد اللقاءات فوق الدروب)

 إن فعل التذكر يحكي أطلالًا عفت دروسها ورسومها، والتي لم يبقى منها إلا رماد الذكرى، توخزه كلما مر بتلك الدروب. وتكون النتيجة:

(ونبكي ارتحال اللقاء العنيد)

 إن هذه الجملة الشعرية كرجع الصدى لقوله في أول القصيدة: 

(وتاه اللقاء)

 وما بين التيه والارتحال مسافة زمانية ودلالة بلاغية، هي المسافة بين دلالة الفعل ودلالة الاسم، بين الحدث مرة وبين الاستمرار، ويتباين المعنى بين التيه والارتحال، حيث تتضح القصدية في الثاني والإصرار عليه. إن لقاءً تاه في زحام السنين، يغاير لقاءً ارتحل هو بذاته، فبانت الجفوة بينهما في اللقاء، ونبا بهما المكان.

 ثم ينتقل الشاعر إلى مرحلة أخرى، فيقول:

(وحينا نغني)  

 للشاعر علاقة قوية بالغناء، فنجد له قصيدة "أغانينا: جعل من الغناء مرقاه إلى التداوي من آلامه وجراحه. وهو هنا يتوسل بالغناء، لينجو من هذا التيه    

 ولكنه استخدام الشاعر للظرف (حين) وهو من الظروف المبهمة، يفيد القلة. فالشاعر قلما يغني، وهل لمكلوم مثله أن يجد في الغناء سلواه؟

(وحينا نغني

ونبصر بين الجموع الشريدة طيف الأمل)

 إن قوله (الجموعِ الشريدة) توحي بالانفصال والبعد، ما يجعل التقط طيف الأمل ضربًا من المحال.

 ويتكرر الزحام بلفظه مرة ثانية:

(هنا في الزحام)

 إن طريق الشاعر إلى الأماني ليس خاليًا، وإنما يستبيه الزحام، ويكبل خطواته. ولكنه بالرغم من ذلك لم ييأس: 

(هنا في الزحام

ننادي على الحلم   

يحنو علينا)

 يكشف البيت في جلاء عن الحالة النفسية للشاعر، حين يغدو الحلم بالنسبة إليه مرادفًا لبث الطمأنينة والشعور بالأمان.

إن الحلم كائن حي ارتآه الشاعر في حال يمكن مخاطبته وترجيته:

(أيا حلم إنا تعبنا 

شقينا وذبنا 

وحقا تعبنا)

 إن الشاعر لا ينشد واقعًا، وإنما حلمًا يقتات منه، خيالًا يجعله يعيش في عالم من خياله هو، كل ما فيه صنعه بيده، وارتضاه لنفسه:

(أعدنا إلى الفجر يحنو علينا) 

 يتكرر فعل (الحنو) مرتين الأولى مع الحلم والثانية مع الفجر، وكلا المطلبين خاطب بهما الحلم. مما يشي بافتقار الذات إلى الحنان، وشعورها بالتشرد والضياع. ثم يهتف بالحلم:

(إلى النور خذنا

إلى الدرب يغدو أمانا 

ينير الفضاء

إذا ما التقينا)

 إن الأبيات تحكي توق الذات إلى الانعتاق من الظلمة إلى النور، ففي الظلمة كان التيه والتشرد والضياع ووأد الأماني واحتراقها، وزيف الأحلام وخداعها.

ثم يقول:

(ودعنا نغرد لحنا شجيا 

يعاود فرحا تغرب في مهجتينا)

 إن اللحن الشجي يأتي في مقابل نوح الحمام، الذي بدأ النص، والذي جاء مقرونًا بالتيه والبعد والانفصال. إن الشاعر ينشد لحنًا حزينًا، ولكن ليس الحزن الذي تخضع له النفس لليأس، ولكنه الحزن الذي تطرب له النفس، وتستعيد به الروح ذلك الفرح المغترب ما بين النفس والروح.

 ويختم القصيدة بما يمثل القفل، فيرد المنتهى على المبتدأ:

(أيا حلم أقبل

أعدنا إلينا) 

 بدأ النص بتلك الخطا التي تناءت، وانتهى بالرغبة في عوده إلى ذاته. مما يشي بالاغتراب الذاتي الذي يحياه الشاعر، والذي أحدث الفرقة والبعاد داخل جنبات نفسه، فاغترب عنها مكانًا، ونأى عنها زمانًا.

موسيقا النص

 خضعت تجربة الشاعر لنغمات بحر المتقارب، والذي تتقارب فيه الحركات، وتحكي نمطية التفعيلات شعور الشاعر، فبين كل وتدين سبب خفيف، وبين كل سببين وتد مجموع، كشجرة متداخلة الفروع والأغصان، والتي تحكي ذلك التداخل في المحاور ما بين البعد والفقد والحزن والبحث، والتي ترجع إلى أصل واحد هو الشعور بالاغتراب.

 كما أن كثرة الجمل الفعلية في النص والتي يبلغ عددها خمس عشرة جملة في مقابل جملة اسمية واحدة، يجعل النص نصًا سرديًّا من الدرجة الأولى؛ حيث تهيمن الجملة الفعلية، والتي تسرد علينا تلك الأحداث الدامية، والتي فجرت ينابيع الحزن في قلب الشاعر.

 لقد بان في ختام النص ذلك السر المكنون في غنائيته الحزينة، إنه التحسر على ماض تولى، وأمسى ذكرى، ولا سبيل لبعثه، ولا طريق يسلكه إليه. إنها ترجمة لمنثوره "والآن اعتزلتني الحياة، ورضي القلب أن يفارقني؛ ليقيم مأتمي"؛ فحين يخلو القلب من مشاعر الحب، يموت، وعندها تضل خطاه، ويستبدل بالهديل الحمامُ النواحَ. ولكنه لا يزال مصرًا على البحث عن ذاته، جاد في السعي إليها، لعله يلتقيها يومًا، فيزايله ذلك الشعور بالاغتراب.

النص

أغنية حزينة


تناءت خطانا

وشوق السنين استباه الزحام

ولاح الغروب شخوصا حزينة

وضاعت رؤانا

وتاه اللقاء وناح الحمام

وجبنا المسافات نشدو ضياعا

ونشكو التياعا

ونحكي لطيف السراب

 احتراقا

ونسكب في جوفِ أحلامنا الضائعات    

الأماني

فنغدو كأزهارنا الذابلات

 جفانا الغمام

ونذكر ما كان من أمسيات الغرام 

ونحثو رماد اللقاءات فوق الدروب

ونبكي ارتحال اللقاء العنيد

وحينا نغني

ونبصر بين الجموع الشريدة طيف الأمل

هنا في الزحام

ننادي على الحلم   يحنو علينا

أيا حلم إنا تعبنا 

شقينا وذبنا 

وحقا تعبنا

أعدنا إلى الفجر يحنو علينا

إلى النور خذنا

إلى الدرب يغدو أمانا 

ينير الفضاء

إذا ما التقينا

ودعنا نغرد لحنا شجيا 

يعاود فرحا تغرب في مهجتينا 

أيا حلم أقبل

أعدنا إلينا

 الاغتراب الذاتي في قصيدة "أغنية حزينة" للشاعر الدكتور طارق أبو حطب
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent