قصة قصيرة بعنوان
«أدمنتك»
د. سعيد محمد المنزلاوي
عرض. طارق أبو حطب
نعيش في هذه السطور مع دفقة إبداعية للأديب العربي الكبير الأستاذ الدكتور سعيد محمد المنزلاوي وهو يحلق بنا في فضاءات الإبداع الممتدة مقدما لنا وجبة دسمة من الإبداع فائق الوصف مبحرا بنا في رحلة إدمان من السحر الحلال
ما بين أول لقاء وأول رحيلٍ، شهر، أتمه هناك مع زوجه الحنون، وكان البحر شاهد ميلاد أجمل قصة حب نمت في قلبيهما معًا. ومنذ أن رحل، وهي تذهب كل صباح إلى البحر كما كانت تذهب إليه معه، ولكنها الآن تقف على مائه وحيدة؛ فتغسل الأمواج قدميها في حنوٍ، وتسري في أوصالها قشعريرة باردة تفجر فيها رغبة للعناق.
سرحت في أشعة الشمس الذهبية، وهي تخرج على استحياء من وراء إحدى القلاع، شعرت بالدفء بعض الشيء، وأنصتت لهمسٍ كالعبير:
- أغار من الشمس، كيف سمحت لشعاعها بأن يطوقك؟!
أبرقتْ عيناها بالحبور، وأمالت رأسها على كتفه؛ فطوقها في حنان؛ لتغفوَ بين ذراعيه. غسلت الأمواج قدميها، ثم انحسرت عنها، أفاقت من إغفاءتها، كانت الشمس قد نشرت أشعتها على الشاطئ، تراجعت بضع خطوات، وجلست على الشاطئ، وراحت تعبث برماله..
- سأبني لك قصرًا كبيرًا، نعيش فيه معًا.
- يكفيني بيت صغير أشعر فيه بالدفء معك.
- أحلامي كبيرة جدًا وكثيرة.
- ولكني حلمي واحد وفقط، وهو أنت.
أخذت قبضة من الرمال، وألقت بها في البحر، ثم تمتمت، لا شيء يعوضني عنك. نفضت ثوبها، وعادت أدراجها إلى بيتها؛ لتبقى بين جدرانه وحيدة..
- شدَّ ما كرهت هذه الوحدة! ما هذا العبث؟ لماذا تزوجتُ إذن؟ كنت قبل الزواج وحيدة، وأنا الآن وحيدة.. تبًا للمال، لا أريد المال، ولكني أريدك أنت.
كان يحزم أمتعته؛ تأهبًا للرحيل.. لم يستطع أن يواجهها بعينيه، ولَّاها ظهره، واستجمع شجاعته؛ ليقول:
- ليست هناك مندوحة عن الرحيل..
- ولكنَّ سعادتنا في وجودنا معًا.
- هل توجد سعادة بلا مال؟!
- لا أريد مالًا، لا أريد غذاءً، أريدك أنت، لا أستطيع الحياة دون أن أتنفسك.
- الحب بلا مال يحميه يموت.
- ومن قال لك أنني حية، إنني بدونك ميتة.
تقوست في جلستها، ودفنت رأسها بين ذراعيها، فغادر دون أن تراه..
أفاضت الذكرى شئون عينيها، تأملت وجهها في المرآة، بدت كزهرة ذابلة، أنكرت صورتها، وابتعدت عن المرآة، صوب النافذة، قطفت زهرة من أصيص الورد، وراحت تتنسم عبيرها، امتلأت رئتها بعبقها الأثير لديها، وأغمضت عينيها، لتجوب بخيالها في فضاء حالم، دنا منها، ثم طبع على جبينها قبلة، فتحت عينيها، فراح يغازلها:
- ما أبهى محياك! وما أبهى عبيرك!
- عبيري أو عبير الزهرة؟
- بل عبيرك أنت .. أنت زهرة عمري.
طوقها بذراعيه، وذابا معًا في قبلة، غابا بها عن الوجود، وضاع عبير الزهرة في أرجاء الغرفة.
أفاقت من إغفاءتها، وقد ارتسمت على شفتيها بسمة ساحرة.
- سأبذل قصارى جهدي لكي أسعدك؛ حتى أنعم دومًا ببسماتك الساحرة.
طربت لكلماته الرقيقة، وانفرج ما بين شفتيها؛ لتولد ضحكة آسرة، أهداها بسببها مزيدًا من القُبل.
جاءها اتصال عبر الماسنجر، قفزت من أريكتها كالملدوغ، في لمح البرق التقطتْ جوالها، كان اتصالًا من زوجها المغترب، لم تدرِ كم مرَّ من الوقت وهي تتحدث إليه، حادثته في كل شيء؛ سردت عليه أحداث يومها، روت له أحلامها، أشواقها، آلامها، وهو يصغي إليها بكل حواسه، بعد أن أشبعت حاجتها إلى الكلام، طلبت منه أن يحدثها عن حياته في بلد الغربة، وشت كلماته بحزنه، مهما حاول أن يوهمها بأنه سعيد، توجع قلبها وأدماه الأسى لحاله، ناشدته أن يعود، أن يرجع إليها. في غمرة الشوق والحنين، اغرورقت عيناهما معًا بالدموع، حاول هو أن يخفي عنها دموعه، ولكن نبرات صوته وتهدجه وشت به.
- لقد أدمنتك، ولم أعد قادرة على تحمل هذا البُعد.
تمتم بشفتيه بكلام غير مفهوم، فاسترسلت:
- لست أريد مالًا، ولا أريد غذاءً ولا كساءً، بل أريدك أنت، أريد منك حبًا وعناقًا.
احتواها بعينين كليلتين، ولم بنبس ببنت شفة. انقطع الاتصال بينهما، ودت لو طال أكثر، ثم عادت إلى وحدتها؛ لتعاني وحدها الوحدة والبرودة والحرمان.