الثرثارة الذهبية
كتب د. سعيد محمد المنزلاوي
تلميذتي "الثرثارة"، هكذا عرفت بين صويحباتها ومعلميها في المدرسة، منحها الله قوة على الحكي، ولسانًا لا يمل ولا يكل من كثرة الكلام والحكي.ئ
هي دائمًا تقاطع من يحادثها، ودائمًا تستطرد في موضوعات شتى، وكأنها موسوعة أخبار وشبكة معلومات لا حد لها.
ما إن تفتح معها حديثًا في موضوع ما حتى تعلن الندم، فهي تجول بك بين مرافئ الحديث من موضوع إلى موضوع، ومن فكرة إلى فكرة، وهكذا دواليك..
تسألها سؤالًا إجابته بنعم أو بلا، ولكنها لا تكتفي بهذا الجواب المختصر، وإنما تقوم بالتحليل والتمحيص والبرهان.. لماذا اختارت "نعم" أو لماذا انحازت إلى "لا"، وماذا لو كان الجواب بـ"نعم" بدلًا من "لا" أو العكس. تحكي لك في استفاضة واستطراد عن تلك المفارقات العميقة للإجابات المختلفة.
وتحاول أيها المسكين أن توقفها، بأن تظهر لها من حين لآخر تململك من حديثها الطويل، أن تعتذر عن الاستماع إلى تلك الطلاقة اللغوية والبلاغية، وتتعلل بضيق الوقت، ولكنْ عبثًا تبوء كل محاولاتك بالفشل، وتظل رغمًا عنك ضحية تعاني من حكايات وأقاصيص ومواقف لا علاقة لك بها من قريب أو من بعيد.
وبالرغم من كثرة الانتقادات التي توجه إليها صباحًا ومساء من القريب والغريب، والقاصي والداني، إلا أنها لا تشعر بفداحة ما تقوم به، هي فقط تمارس نشاطًا فطريًّا، وتقوم بما تمليه عليها حاجتها الغريزية للكلام والحكي. والأغرب أنها لا تبذل جهدًا فيما تقوم به، وكأنها تقرأ من كتاب مفتوح أو تنطق بما يملى عليها من وراء حجاب. ولذا، فهي عاجزة تمام العجز عن التحكم في هذا الأمر، والذي لا تجد سببًا مقنعًا للتوقف عنه.
هي لا تذكر متى بدأت بالثرثرة، والتي يعاني منها القاصي والداني، حتى تضجر منها ذووها، وأفردوها في حجرة قاصية، حتى لا يحتكوا بها، فيضطرون إلى سماع أحاديثها التي لا تنتهي، لا سيما وقد أثرت على من حولها من إخوتها الصغار، مما عزا بأسرتها إلى تجنيبهم الجلوس معها، الجميع كانوا يتحاشون التواجد معها في مكان واحد، حتى لا ينهال عليهم ذلك السيل من الكلام والحكي والاستطراد في المعقول واللامعقول، والمفيد وغير المفيد، والممكن والمستحيل.
من أي ينبوع كانت تفجر كل تلك الحكايا، ومن أي مصدر تستقي كل تلك القصص والأحاديث؟ بل إنها تحفظ سير كل من حولها، ربما أخبرتك عن نفسك، بما لا تعرفه أنت عن نفسك.
ضاق عليها الخناق من كل المحيطين بها، بسبب ثرثرتها التي لا تنتهي، ما جعلها أخيرًا تشعر بمشكلتها وبما تسببه للآخرين من سأم وملل؛ فلجأت إلى أكثر من طيب نفسي، لكنهم جميعًا أجمعوا أنها بلا علة، وأنها جد طبيعية. ولكن هذا الجواب لم يقنعها، ولم يشف غليها، حسبها ما تراه في ضجر الناس من حديثها اللامنتهي، وما يتلقونه بأسنتهم عنها، ما جعلها تشعر بالضيق والوجع.
حاولت أكثر من مرة أن توقف لسانها عن الكلام، ولكنها فشلت، فما أن تتاح لها فرصة للكلام، حتى تنهال الكلمات وتتساقط من فمها في سيل جارف كالمطر.
الغريب أنها نفسها لا تشعر أنها في مشكلة، إنما هو أمر طبعي وفطري، كما أخبرها بذلك الأطباء النفسيون، ولكن تبعات هذا الأمر على المحيطين بها، جعلها تشعر بفداحة هذا الأمر، ولولاهم، لسارت حياتها في سيرها الطبعي دون أن تحتمل ـ دون ذنب منها أو جريرة ـ نظرات الناس القاسية إليها، بل وانصرافهم عنها في أغلب الأحيان.
لقد وصل بها الأمر إلى التفكير في الانتحار؛ للتخلص من حياتها المؤلمة، بل إنها قد أقدمت بالفعل على إزهاق روحها؛ ليصمت هذا اللسان ـ والذي لا يكل من كثرة الكلام ـ للأبد، وتم إنقاذها في آخر لحظة.
حاولت أن تهجر ذويها، ولكن هذا الحل غير جدي، فسوف يبتلى بها آخرون، وستلقى نفس المعاناة وربما أضعافًا مضاعفة.
وفي محاولاتها للخروج من أزمتها، عنَّ أن تقوم بنزع لسانها من فمها؛ حتى تتوقف عن الكلام، ولكنها استبشعت فمها وهو خال من اللسان، ثم طرأت لها فكرة لم تطرأ لأحد على بال، طاوعها عليها أحد الأطباء، وهي أن تخيط فمها للأبد، لمتع قصرًا آلة اللسان من ممارسة عملها في الثرثرة والكلام.
لقد قامت بهذا الفعل الجنوني بعد أن أيست من التوقف عن الثرثرة، فخاطت فمها، واستعاضت عن هذا المدخل الطبيعي للطعام وللشراب فتحة في بطنها توصل الطعام والشراب لمعدتها من خلالها.
ولكن هل توقفت عن الكلام؟ الإجابة بالنفي، فقد استخدمت لغة الإشارة في التعبير عما يجيش بصدرها وما يخالجها من حكايا وكلام ومواقف وأفكار، وانتقلت بالتالي الثرثرة من اللسان إلى اليد وكل جارحة فيها، إضافة إلى صوتها المكتوم تفسر به ما أبهم من لغة الإشارة.
ربما شعرت بالندم لتعجلها بغلق فمها؛ لأن مشكلتها لم تحل بعد، ولا يزال المقربين منها يعانون من ثرثرتها، والتي لم تتوقف أبدًا، وإن استبدلت بالنطق والكلام الإشارة والحركة والإيماءة، بجانب صوتها المنطلق كالنفير من أنفها وفمها المطبق، ما جعل مشكلتها أشد فداحة مما كانت عليه، مما اضطر ذويها إلى تعلم لغة الإشارة؛ ليتواصلوا معها، ويترجموا ما تقول، والأكبر من ذلك، أن يتحملوا ثرثرتها بتلك اللغة الجديدة، والتي تجذب انتباههم بحركات يدها التي لا تتوقف لحظة واحدة.
تمر الأيام، وتلتقي بصديق أقنعها بأنها طبيعية وبلا عيوب، وأنه يقبلها بوضعها هذا، واقترح عليها أن تستعيد فتح فمها مرة أخرى، وألا تبالي بما يقوله الناس عنها. كم كانت سعادتها بالغة، وقد وجدت أخيرًا من يتقبلها كما هي.
عادت لطبيبها والذي أوصد فمها؛ ليعيد فتحه من جديد، خضعت هذه المرة لجراحة عسيرة، أمضت أيامًا في ألم لا يحتمل، لكن الغريب أنها بمجرد أن عاد الثقب الطبعي لفمها، حتى استعادت ثرثرتها أكثر من ذي قيل، وكأنها تعوض صمت لسانها خلال الأشهر الماضية. وبالرغم من توجع شفتيها إلا أنها كانت تحتمل الوجع في عزيمة لا تلين، لم تستجب لتحذير الطبيب لها بعدم الكلام، وإنما استرسلت في ثرثرتها ليل نهار، والعجيب أن فمها تماثل سريعًا للبرء، وكأن ثرثرتها تلك ترياق وشفاء. وعادت إليها ابتسامتها، والتي غابت طيلة الأشهر الماضية.
وحتى لا يتضجر المحيطون بها لكثرة ثرثرتها، كانت تنفق أغلب وقتها في الحديث مع صديقها الجديد، والذي لم يكن يمل أبدًا من حديثها معه، وامتدت بينهما جسور الأحاديث وتطرقا معًا إلى موضوعات عديدة ومتنوعة.
وفي ذات يوم اقترح عليها صديقها أمرًا راق لها، وإن توجست منه خوفًا. قال لها:
- ما رأيك لو عملت في التعليق الرياضي على المباريات؟
قطبت جبينها في دهشة، وبالرغم من غرابة الفكرة، لأننا لم نسمع عن معلقة رياضية حتى الآن، إلا أن الاقتراح راق لها. فابتسمت وهي تقلب الأمر على أوجهه. ولما شعر برضائها، أردف:
- إن لديك ما يؤهلك لهذا الأمر، كما أنك كنت تمارسين كرة القدم في النادي، ولا تزالين.
طأطأت رأسها، وقد لمعت عيناها ببريق الظفر، فأتحفها بهذا الرأي:
- اعرضي الفكرة على مجلس الإدارة وأنا على يقين من أنهم سيوافقون.
ولكي تتحقق المعجزة، فقد تمت الموافقة على ظهور أو معلقة رياضية. بدأت عملها بالتعليق على المباريات المحلية، وسرعان ما ذاع صيتها، حتى صارت أشهر معلقة رياضية لكرة القدم، واستعادت من ثَمَّ ثقتها بنفسها. كانت من خلال التعليق على المباريات، تقدم للجمهور معلومات جمة وطريفة عن اللاعبين، وعن الكرة وقوانينها، وأشهر المباريات، لقد كانت ملمة بكل كبيرة وصغيرة في عالم الساحرة المستديرة، إلى أن حصلت على لقب "أفضل معلق رياضي".
وفي حوار أحد الصحافيين معها معها:
- لمن تدينين بالفضل إلى ما وصلت إليه؟
- بعد الله تعالى، هناك صديق عزيز، ساعدني في القضاء على خوفي من مواجهة الناس.
انفتحت شهيتها للحديث، تطرقا إلى موضوعات متعددة، حاول الصحافي أن ينهي الحديث معها أكثر من مرة، ولكن دون جدوى، فكان ذلك أطول حديث صحفي أجراه في حياته، لدرجة أنهما استكملا الحوار في سيارة الصحافي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اضطر إلى استقبالها في الجريدة والتي يعمل بها، وما إن دلفا بأقدامهما داخل الجريدة، حتى تسلل عبر دروبها ودهاليزها؛ فارًّا بنفسه من ملاحقة حواراتها التي لا تنقطع، ليقع زملاؤه في شرك مواصلة الحديث معها.
صديقه الأثير هو وحده الذي كان يحتمل ثرثرتها دون ضجر، هو وحده الذي كان يراها بلا عيب أو خلل، ولذا عندما عرض عليها فكرة الارتباط به، وافقت على الفور، وباقترانهما معًا، بدأ توظيف ثرثرتها بحيث لا تمثل عبئًا على أحد، فوجهها إلى عمل سلاسل من الأحاديث على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي مستغلة تلك الملكة العجيبة في الحكي والثرثرة. ذاع صيتها، وبلغ مسامع الدنيا كلها، وأحرزت جوائز عديدة، وحصلت على لقب "الثرثارة الذهبية"، ولا زالت برامجها التي تقدمها في القنوات المختلفة تحصد مشاهدات عالية، لا سيما وقد طورت من أدائها، وأثقلت ملكة الحكي عندها، ما جعلها في الصدارة دومًا.
هي الآن أم مثالية، رزقها الله بتوأمين، تقضي شطرًا كبيرًا من يومها في الحكي معهما، راضية بما يمنحانها من بسمات وضحكات رائقة وصافية. وما أن يعود زوجها في المساء، حتى يضم التوأمين إلى صدره، ليستمتعوا جميعًا بتلك الثرثرة الطريفة، في جو من الحميمية والانسجام.